دوغين .. الأحلام الإمبراطورية تقتل الأبناء أيضاً

24 اغسطس 2022
+ الخط -

غير معلوم إلى أي درجة أثر الفيلسوف والجيوبولوتيكي الروسي، ألكسندر دوغين، في قرار الحرب ضد أوكرانيا الذي اتخذه الرئيس بوتين، إذ لا يوجد ما يؤكّد قرب الرجل من الكرملين، ولا تأثيره في صناعة القرار، والذي يبدو أن بوتين يتفرّد به بشكّل كبير، إلى درجة أنه جعل من الشخصيات والرتب التي تتحلق حوله مجرّد منفذين بالقطعة لتكتيكاته.

لكن المؤكد أن أفكار دوغين كانت جزءاً مما يمكن تسميتها عودة صعود القومية الروسية، والتي تشكّلت من خليط من الأفكار السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي أثّرت في النخبة الروسية التي سيطرت على زمام السلطة بعد الانحطاط الكبير في مرحلة حكم الرئيس بوريس يلتسين، حينما وصلت الأمور إلى حد تلميح الغرب إلى احتمال تعيين لجان دولية للإشراف على الأسلحة النووية، في ظل دولة تعيش على عتبات الفوضى، وتحكمها مافيات يمكن حتى أن تفكّر ببيع الأسلحة النووية في السوق السوداء.

لم يكن دوغين مجرّد معلق سياسي يلقي خطباً شعبوية، ولا حتى حزبياً ينتقد السياسات الحكومية في إدارة العلاقات الخارجية، بل رسم خطة طريق واضحة، ليس لاستعادة مجد روسيا فحسب، بل لإعادة إحياء عصرها الإمبراطوي، عبر السيطرة على التخوم الأوراسية، حتى وإن كان عبر اتحاد أو تكتل إقليمي تكون روسيا مركزه وصانعة دينامياته.

عندما يقال إن دوغين هو الأب الروحي لبوتين، ليس معنى ذلك بالضرورة أنه يشرف يومياً على صناعة حيثيات السياسة الروسية، وقد لا يكون من زوّار الكرملين ولا مستشاريه، لكن المؤكّد أن فلسفته التي لامست النوستالجيا الروسية، وأثرت في قطاعاتٍ واسعة من النخب الروسية، قد دفعت بوتين، المجروح بعمق من سقوط الإمبراطورية السوفييتية، والشاهد على بوريس يلتسين وهو يحطّم الشخصية الروسية بثمالته وقهقهات الرئيس الأميركي بيل كلينتون، إلى أن يجد في دوغين صانع مناخ مناسباً لركوب اللحظة الروسية الطامحة للتغيير.

فلسفة دوغين ليست سوى روشتات لصناعة الديكتاتورية الروسية

دوغين، وإنْ بطريقة غير مباشرة، من صنّاع الديكتاتورية في روسيا، عبر رفضه الحداثة والعولمة، اللتين اعتبرهما مخاطر من شأنها تدمير الشخصية الروسية وتمييعها، هذه الشخصية التي ترتكز على بعدي السلافية والأرثوذكسية، بما يعنيه ذلك من تمجيد للإمبراطوريات والديكتاتوريات الروسية على مرّ التاريخ، منذ عهد كاترين الثانية في القرن الثامن عشر.

يستحقّ دوغين لقب الأب الروحي لروسيا اليوم، فمن يتابع خطوط المشروع الجيوسياسي الروسي يكتشف أن خريطته ومساراته حدّدها دوغين في كتاباته "الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة" الذي صدر بالعربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2022)، وكتابات أخرى من نوع "أوكرانيا حربي، يوميات جيوسياسية"، و"إنتقام روسيا الأوراسي"، وسواها من عشرات الدراسات والمقالات.

إذاً، وضع دوغين آليات المشروع الجيوسياسي الروسي، وجهّز دوافعه، وشحن طاقاته، ووضع بوتين ذلك كله موضع التنفيذ، عبر تكتيكات واستراتيجيات عديدة، مستفيداً من تراخي القوّة الغربية، أو ربما وصولها إلى مرحلة الانهماك في الترف، اللحظة التي رأى ابن خلدون أنها تشكّل مرحلة سقوط الدولة، والتي يبدو أن دوغين ارتكز عليها في تحليل أوضاع الحضارة الغربية، وبالتالي، نجد في كتاباته وصف هذه الحضارة بالانحلال والانحدار، وقد انتقلت هذه الصفات، بكثافة، إلى خطابات بوتين، وخصوصاً في المرحلة الأخيرة.

كل فلسفة لا تهتم بالقيم الإنسانية وبحياة البشر منحطّة، حتى لو تلطّت خلف عناوين كبيرة

مؤكّد أن دوغين يعلم الأثمان الباهظة التي تدفعها الأمم وهي في طريقها إلى أن تصير إمبراطوريات، وهذه الأثمان الباهظة تدفعها الشعوب على الطرفين من لحم أبنائها ودمائهم، وهؤلاء الأبناء لهم آباء وأمهات سينهارون لحظة علمهم بمقتلهم، سيشعرون بانهيار مستقبلهم وضياع أعمارهم وموت كل شيء جميل في هذه الدنيا، ولن تعوّض الإمبراطورية وأمجادها هؤلاء الأبناء الذين تأكلهم نيران الحروب.

شرب دوغين نفسه من هذه الكأس عندما رأى النيران تلتهم ابنته داريا في حادث مدبّرٍ مُدان، ووقف عاجزاً ومذهولاً وانهار مثل عشرات آلاف الآباء الذين قتلت الحرب الأوكرانية أبناءهم. ولكن هل كان دوغين يتصوّر أن هذه هي تطبيقات أفكاره الحرفية؟ هل كان مؤمناً فعلاً بأن استعادة مجد روسيا يتطلب هذه التضحيات العزيزة؟ أم أنه كان يعتقد أن النار لن تصل إليه وأنها فقط ستأكل أبناء الفقراء الذين جاءوا إلى الدنيا ليكونوا أدوات بيد أمثاله، لتحقيق أحلامه ورغباته وتصوراته؟

ليس سرّاً أن بوتين، وقيادات الدول الكبرى، لديهم طائرات تسمّى "طائرات يوم القيامة" صُنعت لهم خصيصاً في حال اندلاع حرب نووية كبرى، يضعون فيها أولادهم وأحبتهم، ويرحلون إلى أماكن آمنة، ويتركون الشعوب تحترق، مع أن هؤلاء لا هم صنعوا الحرب، ولا هم من سيجري تخليدهم وتمجيدهم حين إعلان النصر.

والحال، كل فلسفة لا تهتم بالقيم الإنسانية وبحياة البشر منحطّة، حتى لو تلطّت خلف عناوين كبيرة، القومية والسيادة والمجد. وفلسفة دوغين ليست سوى روشتات لصناعة الديكتاتورية الروسية، الديكتاتورية الفاسدة والفاشلة في إنتاج أي قيم حقيقية، والتي ستبرّر فشلها بالاستحواذ على مزيد من أراضي الدول والأمم المجاورة وسحق شعوبها وتدمير حيواتهم، لأنهم في نظر تلك الفلسفة منحرفون، طالما هم يتبعون القيم الغربية.

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".