دموع أولاد كامب ديفيد
مرّت يوم أمس 45 عامًا على توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد بين أنور السادات ورئيس حكومة الاحتلال الصهيوني مناحم بيغين برعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر، وهما الاتفاقيتان اللتان مثلتا إطارًا للوصول إلى ما عُرفت باسم "معاهدة السلام" المصرية الإسرائيلية في العام التالي 1979.
اتّفقت الأطراف على أن يكون أهم أسس تسوية النزاع بين الاحتلال والدول العربية المحيطة به قرار مجلس الأمن رقم 242 بكل أجزائه، وكذا القرار 338، واللذان يقرّران مبدأ عدم جواز استيلاء بلد على أراضي بلاد أخرى عن طريق القوة، ومبدأ ضرورة اعتراف العرب بوجود إسرائيل داخل حدود آمنة ومعترف بها.
من المهم أن نسأل ماذا أخذت إسرائيل وماذا أعطت للعرب بعد نصف قرن إلا خمس سنوات؟. بعد التوقيع بأقل من أربعة أعوام، كان الكيان الصهيوني يعتدي على لبنان ويحتلّ أراضيه بعد اجتياحه 1982. وبعد أكثر من أربعة عقود يتوسّع الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد عام 1967، ويهيمن على المسجد الأقصى، ويتمدّد في عمق الخريطة العربية، ملتهمًا عاصمة تلو أخرى على موائد التطبيع.
كانت "كامب ديفيد"، إذن، أهم من امتلاك القنبلة النووية بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي، حيث نجح من خلالها في رفع أعلامه في سماوات خمس عواصم عربية، فضلًا عن أخريات في الطريق.
مصريًا، كان أنور السادات يخدع نفسه والمصريين، حين يبرّر تلك الوثبة المجنونة في الحضن الأميركي الصهيوني بتحقيق الرخاء والتنمية الاقتصادية، وفي الذاكرة المقولة المضحكة المنسوبة إليه "اللّي مش هيتغِني في عهدي عمره ما هيتغِني". كان نظامه قد قرّر انكفاء مصر على ذاتها والبحث عن مصالحها الاستراتيجية، ابتعادًا عن دورها والتزامها القوميين، وهو التوجّه الذي عبّر عنه وزير السادات للشؤون الخارجية، بطرس غالي، في مذكّراته الصادرة بعنوان "بين النيل والقدس"، حيث كتب "إذا كان لا بد من الاختيار بين العالم العربي وأفريقيا، فماذا سيكون خيارنا؟ باختصار، ما هو الأهم بالنسبة لمصر: النيل رمز المستقبل أم القدس، رمز التاريخ؟ ما هو الأهم: الجغرافيا أم التاريخ؟".
بالطبع، كان الاختيار أن الجغرافيا أهم من التاريخ، وأن اهتمام مصر ينبغي أن يكون بالنيل، لا بالقدس، لنكتشف بعد 45 سنة من هذا المنطق الساداتي أن مصر استقالت من التاريخ (القدس وفلسطين)، ولم تحافظ على الجغرافيا (النيل وأفريقيا)، بالإضافة إلى جزيرتي تيران وصنافير فيما بعد، وها هو النيل قد أصبح مسألة إثيوبية خالصة، لا تملك القاهرة منها سوى الاستجداء والشكوى من الملء المتكرّر لخزان السد الإثيوبي.
لم يحلّ الرخاء ولم يذهب الفقر، بل صار أكثر توحشًا واستبدادًا على المواطن الذي تعاقبت على حكمه سلطاتٌ باتت مدركة أن بقاءها أو رحيلها مرهونٌ بالإرادة الإسرائيلية، فجعلت معركتها الواحدة حماية مقاعدها، ثم وصل بها الأمر إلى تسوّل المنح والمساعدات والقروض من الخارج، وتسوّل التأييد والتعاطف من الجمهور الذي أفقرته وجلست تبكي الفقر والحاجة معه.
عربيًا، لم توقف "كامب ديفيد: الحرب ولم تأت بالسلام. الإنجاز الوحيد لها أن الاحتلال لم يعد يخشى في الحرب لومة لائم ولا إجراء يمكن أن يردعه من أصدقائه العرب، وشركائه وحلفائه تحت مظلّة القيادة الأميركية المشتركة، أي صارت كلفة الحرب بالنسبة له أرخص كثيرًا من قبل، بل تكاد لا تكلفه شيئًا من الأصل.