دلالات تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان

16 ابريل 2022

نتائج تصويت في الأمم المتحدة على عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان (7/4/2022/فرانس برس)

+ الخط -

قادت الولايات المتحدة، في الأيام القليلة الماضية، حملة واسعة النطاق، للتنديد بما تقول إنها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ترتكبها روسيا في أوكرانيا، ثم دعت إلى جلسة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة، انعقدت بالفعل يوم 7 إبريل/ نيسان الحالي، وقدّمت خلالها مشروع قرار يدعو إلى تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، جرى التصويت عليه وإقراره بأغلبية 93 عضوا ومعارضة 24 عضوا، وامتنع 58 عضوا عن التصويت. ومعروفٌ أن ليبيا هي الدولة الوحيدة التي سبق للجمعية العامة أن اتخذت قرارا بتجميد عضويتها في المجلس عام 2011. وهذه هي المرّة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة التي توقِع فيها عقوبة ضد أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، بما في ذلك إبّان مرحلة الحرب الباردة التي استمرت أربعة عقود. فما هي دلالة إقدام الأمم المتحدة اليوم على إيقاع هذه العقوبة على روسيا بالذات؟ هل يعني ذلك أن النظام العالمي دخل، مع بداية الحرب المشتعلة حاليا على الساحة الأوكرانية، مرحلة صراعية جديدة أخطر من التي مرّ بها إبان مرحلة الحرب الباردة؟ وما انعكاسات ذلك على مستقبل الأمم المتحدة؟

مجلس حقوق الإنسان، ومقرّه جنيف، هو إحدى الهيئات التابعة للأمم المتحدة، أنشئ عام 2006، ليحلّ محلّ لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بهدف تفعيل دور الأمم المتحدة في مجال تعزيز احترام حقوق الإنسان في العالم، والتخفيف من حدّة الانتهاكات التي تُرتكب ضد هذه الحقوق. ويتشكّل هذا المجلس من 47 عضوا تنتخبهم الجمعية العامة لمدة ثلاث سنوات، وفقا لنظام خاص بالتوزيع الجغرافي، تحصل "مجموعة الدول الأفريقية" بموجبه على 13 مقعدا، و"مجموعة دول آسيا والمحيط الهادئ" على 13 مقعدا، و"مجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبي" على ثمانية مقاعد، ومجموعة "أوربا الغربية ودول أخرى" على سبعة مقاعد، و"مجموعة أوروبا الشرقية" على ستة مقاعد. وكانت روسيا تشغل أحد المقاعد المخصصة لدول أوروبا الشرقية عن الفترة 2021-2023.

اتخاذ قرار بمعاقبة دولة كبرى تحظى بمقعد دائم في مجلس الأمن ينطوي على أبعاد بالغة الخطورة تتعلق بهيبة الأمم المتحدة

يلفت النظر هنا أن سجل الدولة التي قادت حملة إخراج روسيا من مجلس حقوق الإنسان، وهي الولايات المتحدة، ليس مشرّفا أبدا في هذا المجال، ليس فقط لارتكابها انتهاكات جسيمة ومتكرّرة لحقوق الإنسان، خصوصا في العراق وفي دول عديدة أخرى، ولكن أيضا لموقفها المتذبذب والعدائي من مجلس حقوق الإنسان نفسه، فبعد إنشائه مباشرة، أعلن الرئيس جورج دبليو بوش أن الولايات المتحدة لن تسعى إلى الحصول على مقعد فيه، وأنه "سيكون بمقدورها الدفاع عن هذه الحقوق من خارج المجلس بأفضل منه من داخله". ولذا اكتفت بصفة مراقب. وفي 6 يونيو/ حزيران 2008، ذكرت "هيومن رايتس تريبيون" أن الولايات المتحدة "انسحبت بالكامل من مجلس حقوق الإنسان، وبما يشمل صفة مراقب أيضا". ثم جاءت إدارة الرئيس أوباما لتتخذ موقفا مغايرا، وتقرر الانضمام لهذا المجلس، وانتُخبت عضوا فيه بالفعل، لكن ذلك لم يستمر طويلا، خصوصا بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، ففي 19 يونيو/ حزيران 2018، أعلن كل من وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، ومندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، أن الولايات المتحدة ستنسحب من مجلس حقوق الإنسان، لأنه "منافق ومتحيز لخدمة مصالح ذاتية، ولديه هوسٌ مرضيٌّ تجاه إسرائيل". ومع ذلك، لم يكن ذلك موقفا نهائيا!. فبعد أكثر من عامين من الغياب عن مجلس حقوق الإنسان، قرّرت الولايات المتحدة العودة إليه في عهد إدارة الرئيس بايدن. ويدلّ هذا التذبذب في المواقف الأميركية تجاه مجلس حقوق الإنسان على أن معالجة قضايا حقوق الإنسان داخل الأمم المتحدة خضعت على الدوام للأهواء والمزايدات السياسية. تجدر الإشارة هنا إلى أن إسرائيل، الحليف الأقرب للولايات المتحدة، هي أكثر الدول قاطبة إدانة من المجلس، بسبب انتهاكاتها اليومية لحقوق الإنسان في الأراضي العربية التي تحتلها، خصوصا الأراضي الفلسطينية.

ربما تكون الولايات المتحدة قد تمكّنت من تسجيل "انتصار دبلوماسي" في الأمم المتحدة، حين نجحت في تمرير قرار في الجمعية العامة، يقضي بتجميد عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، غير أن بعضهم يشكّك في صحة الأغلبية التي حصل عليها هذا القرار (ينبغي أن تصل إلى ثلثي عدد الدول الحاضرة والمشاركة في التصويت)، فعدد الدول التي امتنعت عن التصويت عليه كان كبيرا، ووصل إلى 58 دولة، من بينها غالبية ساحقة من الدول العربية، وهي دولٌ لم تحتسب أصواتها ضمن الدول المشاركة في التصويت، على الرغم من أن الامتناع عن التصويت، بعكس الغياب عن حضور الجلسة، يعدّ نوعا من المشاركة وموقفا تصويتيا واضحا، مثل التأييد أو الرفض. وقد وصل الإحساس الأميركي بهذا الإنجاز حدّا جعل المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة تصف قرار التجميد بأنه "لحظة تاريخية هامة". أما المندوب الروسي فقد علّق على هذا القرار قائلا: "لسوء الطالع، وفي الظروف الراهنة، مجلس حقوق الإنسان احتكرته مجموعة واحدة من الدول، وتستخدمه لتحقيق أهدافها قصيرة الأمد، فالدول التي تدّعي أن لديها معايير سلوك محترمة في مجال حقوق الإنسان هي نفسها التي انخرطت سنوات طويلة في انتهاكات جسيمة لهذه الحقوق، على الرغم من عضويتها في مجلس حقوق الإنسان".

سجل الولايات المتحدة التي قادت حملة إخراج روسيا من مجلس حقوق الإنسان ليس مشرّفاً

لن تأبه روسيا كثيرا لفقدان مقعدها في مجلس حقوق الإنسان، لكن اتخاذ قرار بمعاقبة دولة كبرى تحظى بمقعد دائم في مجلس الأمن ينطوي على أبعاد بالغة الخطورة تتعلق بهيبة الأمم المتحدة. ويكفي أن نقارن ما يحدث هذه الأيام بما كان يحدث إبّان حقبة الستينيات، فحين امتنع الاتحاد السوفييتي عن تسديد حصته في نفقات قوات حفظ السلام في الكونغو، بدعوى أنها ليست من قبيل النفقات التي تدخل ضمن الميزانية الاعتيادية للمنظمة، وطالب الدول التي تسبّبت في الأزمة بأن تتحملها وحدها، أصدرت محكمة العدل الدولية فتوى تقضي بأن هذه النفقات يجب أن تتحمّلها الدول الأعضاء وفق حصص كل منها في ميزانية المنظمة، الأمر الذي شجّع بعض الدول المعادية للاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت بالمطالبة بتطبيق نص المادة 19 من ميثاق الأمم المتحدة. وهذه تقضي بحرمان الدول التي عليها متأخرات مالية توازي حصتها في الميزانية عن عامين متتالين من حقوق التصويت في الجمعية العامة. وقد أحدث هذا الموقف وقتها ضجّة سياسية هائلة داخل أروقة الأمم المتحدة، غير أن أغلبية الدول الأعضاء رأوا وقتها أن حرمان الاتحاد السوفييتي من التصويت في الجمعية العامة سوف يهزّ من هيبة الأمم المتحدة نفسها، ويُضعف من قدرتها على أداء وظائفها، ومن ثم جرت معالجة الموضوع لاحقا بالطرق الدبلوماسية والودّية.

في منتصف الستينيات، كانت الحرب الباردة بين المعسكرين، الشرقي والغربي، على أشدّها، لكن الحكمة وقتها كانت سيدة الموقف. اليوم، وعلى الرغم من أننا نعيش في عالم "ما بعد الحرب الباردة"، إلا أنه يبدو عالما مصابا بانفلات الأعصاب و تنقصه الحكمة. ليس في وسع أحدٍ أن يجادل في أن روسيا انتهكت القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، حين لجأت إلى القوة المسلحة لتسوية خلافاتها مع أوكرانيا، وربما لا يستطيع أحد أن يدافع عن سجلّها في مجال حقوق الإنسان، لكن الذهاب إلى طردها من مجلس حقوق الإنسان يثير مشكلةً من نوع آخر، فحين يتعلق الأمر بالأمم المتحدة ودورها، فإن واجبها يقضي بمعاقبة كل الخارجين على القانون الدولي وكل المنتهكين لحقوق الإنسان، لكنها حين تطبّق معايير مزدوجة أو انتقائية، فإنها تعرض هيبتها للضياع. وهذا هو ما حدث بالفعل!

حسن نافعة
حسن نافعة
كاتب وأكاديمي مصري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة