دلالات النفور من تصريحات الدكتور
دفع الدكتور حسام موافي فاتورةً ليست له، لم يطلب، يوما، ما فيها، ولم يستفد به، أو من وراءه، كان المصريون في النصف الأول من القرن الماضي يصفون الطبيب بـ"الحكيم". اختفى هذا الوصف تدريجيا مع تحوّل أطباء كثيرين إلى أصحاب دكاكين، ثم مع تناقص الأطباء الحقيقيين، وهروب الكفاءات إلى أوروبا أو الخليج.
حسام موافي، أستاذ الحالات الحرجة بمستشفى القصر العيني، واحد من قليلين يمثلون هذا الوصف، حكمة في أداء مهنته، حكمة في طلب المقابل المادي، والذي لا يتناسب مع "شطارته" وشهرته، حكمة في استعداده الدائم لتقديم المساعدة، لغير القادرين، بدون مقابل، حتى الإطلالات التلفزيونية، وأغلبها كلامٌ مفيدٌ في التوعية الصحية، لا يتقاضى عليها أجرا. "حكيم" حقيقي، وطبيب حقيقي، ومتديّن حقيقي، وليس درويشا.
لاحظ الدكتور موافي أن "القريب في دينه إلى الحقيقة" بعيد عن الأمراض النفسية، (لفت نظري مفهوم الحقيقة بأبعاده الفلسفية والصوفية والكلامية)، وسجّل ملاحظته، وليس رأيه العلمي، وقال إنه "لا يعرف لذلك سببا"، لم يقل أبدًا إن الدين علاج للمرض النفسي، أو إن الصلاة أو الصوم أو ذكر الله هي علاج الاكتئاب، من دون الطبيب النفسي أو الأدوية، ومع ذلك جرت صياغة الخبر والتعليق عليه وفق هذا التصور الأخير.
كانت لغة الدكتور موافي في تصريحه الأول تحتمل التأويل إلى التصوّر الخرافي، (وتحتمل غيره)، لكنه عاد، بعد يوم واحد، ليوضح للمعلّقين ما أراد، وأشار إلى قيمة التديّن في "مساعدة" المريض، والوصول به إلى حالة الرضا، ومنعه من الانتحار، الذي يرافق بعض الحالات، وأشار أيضا إلى أنه يقصد بالدين كل دين، المسيحية والإسلام وغيرهما. أي أن المقصود هو ما يمنحه الدين من طاقة روحية، مفيدة من دون شك، للمريض في بعض الحالات. ولا أظن أن مختصّا بالأمراض النفسية يمكنه أن ينكر ذلك. الكلام عادي ومعقول ومفهوم، لكنه لم يمرّ.
فسر الدكتور موافي ما حدث في مداخلة تلفونية مع الإعلامي (مع التحفّظ) أحمد موسى (مع الأسف)، بحالة "إرتكاريا" تصيب بعضهم حين يُذكر الدين، وهو تفسير بسيط وسريع ومتوقع، كما أنه ليس خاطئا، بالكلية، فمن الطبيعي أن ثمّة من يرفضون الدين، وينزعجون، بشكل مرضي أحيانا، من التفسيرات الدينية، وهؤلاء موجودون في كل مكان، لكنهم ليسوا في مصر، أو محيطها العربي، بالكم (والشجاعة) التي تملأ الفضاءات الإلكترونية بالتعليقات الرافضة، والغاضبة من موافي.
جاءت التعليقات لتعبر عن حالة "حنق عام" من خطابات دينية، تختلف في "أشكال" من يقدمونها وانتماءاتهم المذهبية والمؤسّسية، وولاءاتهم السياسية والحركية، وتتفق في بعدها "الدعائي" الذي يتعامل مع الدين بمنطق الأولتراس، و"بيب بيب" إسلام، في مواجهة الأديان الأخرى، والمعتقدات الأخرى، والعلوم النظرية، الفلسفة والسياسة والاقتصاد والاجتماع .. إلخ، والعلوم التطبيقية، والفنون والآداب، ويرى أصحابها ضرورة أسلمة ذلك كله، أو وصمه وتشويهه وتحويله، قسرا، إلى منافسٍ للدين، أو عدو.
يتخذ هذا الخطاب من بعض الآراء التراثية خاماتٍ لتصنيع "دين جديد" يروّجه أصحابه بوصفه "النسخة الأصلية"، و"الإسلام الصحيح"، ويحملونه إلى الجماهير عبر استدلالات واصطلاحات، تبدو، في ظاهرها، لغير المختصّ، دينية، وشرعية، وفقهية، وتراثية. ولا يقوى أغلب المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، أو المنشغلين بالشأن العام، على مجاراة أصحابها في استخدام هذه اللغة أو الكتابة بها أو عنها. كما لا يقوى أغلب المشتغلين في المعارف الدينية من علماء "حقيقيين"، باحثين وكتّاب ومفكّرين، على مجاراة مزايدات تيارات الشعبوية الدينية، بل إن بعض المتخصصين يضطرّون، أحيانا، إلى الخضوع لسلطة الجماهير والشيوع، والسكوت عن خطابات التجريف والتحريف والتخريف، ومجاراة أصحابها، بل ومغازلتهم، خوفا أو طمعا.
من هنا كانت تصريحات موافي فرصة لاصطياد أصحاب هذه الخطابات المؤذية خارج منطقة نفوذهم والاشتباك معهم وفق مقرّرات الطب الحديث، وهي محاولة مستحقّة، وغير دقيقة، مع الأسف، لأن نزوع طبيبٍ إلى الربط بين ملاحظاته العلاجية وتأملاته الدينية شيء، و"أسلمة الطب" شيء آخر.