دفاعاً عن نصر الله
أمام طوفان التعقيبات على خطاب أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، يوم الجمعة الماضي، والتي جهرت، في منصّات التواصل، بخذلانٍ كبيرٍ أحدَثه في أصحابها، ومع إشهار كثيرين من هؤلاء أن الذي قيل في الخطاب يُبيح للمحتلّين مزيداً من الإجرام الوحشي في أهل قطاع غزّة والاستفراد بهم، وقد "اطمأنّوا" إلى أن الجبهة التي اشتهى كثيرون أن يعلن سيّد المقاومة إشعالها لن تشتعل، وفيما رأى عديدون أنه كان الأوْلى بالرجل الذي انعقدت عليه الآمال العظام ألا يُلقي خطابَه هذا، سيّما وقد مهّد له ناسُ الحزب وأنصارٌ له بفائضٍ من الإثارة التلفزيونية والمشهدية، والدعائية المفتعلة، لا مدعاة له... أمام هذا كله (وغيره ربما)، يصير الدفاع عن "منطق" حسن نصر الله، في خطابه، كما يُنبئ العنوان أعلاه، بمثابة مسلكٍ انتحاري، كما الذي كان يفعله معلّقٌ في صحيفة أردنية، عندما "يتفهّم" رفع الحكومة أسعار موادّ حيوية، وهو الذي لم يكن يوفّر الحكومة في غير شأن، ولا يداهن قرّاءَه عندما يُثني عليها عندما يرى هذا حقّاً له بوصفه كاتباً وصاحب رأي، لا مغنّياً في "ما يطلُبه الجمهور". ولا يأتي صاحبُ هذه المقالة هنا "تفهّم" كثير مما قاله نصر الله (ليس كلّه) اقتداءً بالزميل الراحل، وإنما تسلّحا، في مدخلٍ أوّل في المساجلة، بأن كل أصحاب تلك التعقيبات التي أصابها الزعيم العتيد بخيبةٍ مشهودةٍ من خارج لبنان وليسوا لبنانيين، فيما أغلب التعليقات من أهل هذا البلد رحّبت بالذي سمعوه، بل تنفّسوا فيها الصّعداء. وليس التذكير بهذا المُعطى هنا حمْلاً للسلّم بالعرْض، ولا هو ولعٌ بالمخالفة، إنما هي البديهيّات التي تذكّرنا بوجوب بعض الالتفات، ولو فيما نحنُ في غضون المذبحة في غزّة، إلى اللبنانيين أنفسهم، أهل بيروت وصيدا وبعلبك وصور و...، وغيرِها من مدنٍ وبلداتٍ وقرى لن يوفّرها الوحش الإسرائيلي بالقصف الأعمى، فيصيرون عُرضةً للقتل والنزوح والفزع، في الدقائق الأولى لوصول أول صاروخٍ من حزب الله إلى حيفا وما بعد حيفا. والرسائل التي وصلت من تل أبيب أن كل لبنان سيكون مُباحاً لسلاح الجو الإسرائيلي في الساعة التي يتجاوَز فيها حزبُ الله سقوف الاشتباكات الراهنة في الجنوب.
زيادةً على هذا البعد (هل نقول الإنساني والأخلاقي؟)، ثمّة ما طفقنا نقولُه، ونرمي به حزب الله، ونحن نُطالبه منذ عقود، في مؤاخذاتنا الغزيرة (والباقية) عليه، بأن يكون لبنانيّاً، وأن تبقى حساباته لبنانيةً، فلا يحتكر قرار الحرب والسلم. وها هو يفعلها، ويقول نصر الله إن المواجهة مع العدوّ "تتدحرج" وفق عاملين، أحدُهما توسيع هذا العدو اعتداءاته على لبنان واللبنانيين. كما أنه، بعد جولاتٍ غير قليلةٍ احتكر فيها قرار الحرب، يحتكر في هذه المرّة، قرار السلم، أو مقادير من السلم ما دام ثمّة "احتمالاتٌ مفتوحة"، وقولُه هذا إنها مفتوحة صحيح، فالمرجّح، إلى منزلة المؤكّد، أن شهيّة صنّاع القرار السياسي والعسكري، في حكومة الاحتلال الفاشية الراهنة وفي غيرها تالياً، بالقضاء على حزب الله، لا تقلّ عن التي نُعاينها في غزّة بزعم "القضاء على حماس".
ولقائلٍ أن يقول إن حزب الله، في أعرافنا، قوّة مقاومةٍ وفلسطينُ أفقُه، سيما وأن منزعه إسلامي (لنؤجّل مسألة المذهبية مؤقّتا). وهذا صحيحٌ، ولكن ليس تماماً، فقد انعطف الحزب منذ زمنٍ إلى أن يكون في معادلة الحكم والسلطة في لبنان، في مجلس النواب والحكومة. وما تمّت اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل قبل عام من دون ختْمه، كما مداولات تعيين الخط الأزرق في الجنوب، بعد الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000، وكذا ترسيم خطوط الاشتباك بعد الذي سمّاه انتصاراً في 2006، ولم يكن كذلك بالمعنى العسكري. وبذلك، يصبح المخطئ ليس نصر الله، وإنما الذي انتظر منه أن يغلّب شقّ المقاومة فيه على أي شقٍّ آخر، والذي غاب عن أفهامه أن من يزاول السياسة، بمعناها الإجرائي والعملي، يلعب ويناور ويبيع الكلام ويكذب، وحزبُ الله ليس منقطعاً لهذا كله، وإنما يستخدمه عندما تعوزه الحاجة، تماماً كما فعل، عندما وجد نفسَه يحارب في سورية ضد الشعب السوري ليحمي نفسَه. وهذا هو يحارب في الجنوب في مواجهاتٍ يخسر فيها نحو 50 مقاتلاً، وفي كل الأحوال، هو صادقٌ في عدائه إسرائيل، وفي استعداده لجولاتٍ محتملةٍ معها.
أما قولُ من يقول إن فتح حزب الله حرباً أوسع مع إسرائيل سيخفّف عن أهل غزّة أهوالاً من المقتلة، فهذا ليس محسوماً، والأدْعى أن يقنعنا به جنرالاتٌ خبيرون في الحروب وفي شؤون إسرائيل العسكرية، وليس أيّ منا، نحن المتفرّجين الحانقين، الذين نتوسّل من نصر الله نصرةًً، فيما الأدْعى أن يوفّرها غيرُه.