دروس وتساؤلات في مستقبل سورية والمنطقة
يعيدنا سقوط الأنظمة التي بدت عقوداً طويلة غير قابلة للهزيمة دائماً إلى التساؤل: ما الذي يجعل بعض الأنظمة تنهار فجأة؟ وما الذي يمكننا أن نتعلّمه من تلك اللحظات الحاسمة في التاريخ؟ فقد تبخّر نظام الأسد الذي حكم سورية بالحديد والنار، على الرغم من أن هذا الانهيار كان مفاجئاً، تماماً كما حدث مع الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من ثلاثة عقود.
الدرس الأول والأكثر أهميةً أن دولة المؤسّسات دائماً أقوى من دولة الفرد، فالأنظمة التي تعتمد على شخص واحد أو أقلية تتحكّم بمفاصل الدولة تكون أشبه ببيت من ورق، ينهار بمُجرَّد أن يواجه رياح التغيير، وتركيز السلطة في يد مجموعة صغيرة لا يؤدّي إلى ضعف الدولة فقط، بل يجعلها عُرضةً للانهيار التام عندما يفقد هذا الفرد أو تلك المجموعة قدرتهم على السيطرة. سورية الأسد أو رومانيا تشاوتشيسكو أو إسبانيا فرانكو، تقدّم مثالاً حياً على أن الأنظمة المستبدة مهما بدت قويةً، تبقى هشّةً من الداخل.
تفقد الأنظمة التي تعتمد على القمع وبثّ الخوف شرعيتها تدريجياً أمام شعوبها. كان نظام الأسد رمزاً لهذا النوع من الحكم، رغم نجاحه في قمع الثورة سنواتٍ، فالظلم مهما طال أمده لا يدوم، والنهاية انهيار شامل يعيد تشكيل الواقع السياسي، ليس في سورية فقط، بل في المنطقة بأكملها. ومنذ هروب الأسد وانتصار أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) يشتعل الفضاء الإلكتروني العربي بالمناظرات والملاسنات، ما بين احتفالات لدى بعضهم، تقابلها بكائياتٌ لدى بعضهم الآخر، فيما ينظر فريق كبير للوضع في سورية بنظرة فرح يشوبه القلق، الفرح بإزاحة بشار الأشد وتحرير الأسرى بشكل عام، وبعضهم قلق من انتصار الإسلاميين وإمكانية إقامة نظام حكم إسلامي في سورية، أو من حرب أهلية محتملة، تخوضها الفصائل كما حدث في أفغانستان. بعضهم فرح بسقوط بشّار، لكنْ لديه قلق مفهوم من المستقبل الغامض.
أنصار السلطوية في مصر منزعجون من سقوط نظام الأسد، ليس قلقاً على سورية، بل على مستقبل الأنظمة السلطوية
وأيضاً، هناك أطراف إقليمية انتابها الحزن والهلع من سقوط نظام بشّار الأسد، فهذا السقوط المفاجئ يهدم السردية التي تعتمد عليها بعض الأنظمة لتبرير قمعها، وإذا نجح السوريون في بناء دولة ديمقراطية تستوعب جميع الأطراف، فإن ذلك يمثّل تحدّياً كبيراً لأنظمة أخرى، تعتمد على الفشل المتكرّر للإسلاميين ذريعةً للبقاء في السلطة، أمّا نجاح الحكّام الجدد في سورية (إن حدث) فسيضع الجميع في اختبار حقيقي: هل يمكن للتغيير أن يحدث من دون قمع ومن دون فرض رؤية طرف على الآخر؟
أنصار السلطوية في مصر منزعجون من سقوط نظام الأسد، ليس قلقاً على سورية، بقدر ما هو قلق على مستقبل الأنظمة السلطوية، سواء في مصر أو في المنطقة، فسقوط الأسد يرسل إشارات مقلقة إلى أيّ نظام سلطوي يعتمد على القمع أساساً للبقاء، ونجاح الأسد في قمع الثورة كان بمثابة نموذج تحتذي به بعض أنظمة عربية، ولكن سقوطه الآن يهدم هذه الفكرة. كيف يمكن إقناع الدوائر الحاكمة بأن القمع ليس ضمانةً للبقاء في السلطة؟
الأخطر في الأمر انتصار فكرة العنف والسلاح وسيلةً للتغيير، وكاتب هذه السطور من أنصار اللاعنف والسلميّة والحوار بشكل عام، فانتصار فكرة العنف قد تترتب عليه مسائل عديدة. وبشكل عام يمكن القول إن الصراع الدائر في العالم العربي تاريخي مستمرّ منذ عدّة عقود بين القوى القومية/ السلطوية وتيّارات الإسلام السياسي، يستمدّ كل من الطرفَين قوته من وجود الآخر عدواً. يبرّر القوميون العرب (السلطويون) قمعهم بخطر الإسلاميين، ويبرّر الإسلاميون استبدادهم المضادّ بما فعله السلطويون (القوميون) عندما تمسّكوا بالسلطة. في النهاية، لا تقدّم هذه الثنائية المدمّرة أيّ حلول حقيقية، بل تعيد إنتاج الصراعات نفسها التي عاشتها المنطقة منذ خمسينيّات القرن الماضي.
وبشّار الأسد كان المثال الوحيد الناجح للتوريث الجمهوري في المنطقة. ومع انهياره، تنهار آمال الأنظمة الأخرى في تكرار هذا السيناريو، بالإضافة إلى ذلك، يُثبت سقوط النظام السوري أن الدولة لا تُهدَم بسبب سماعها شعبها، بل عندما تتجاهل أصواتهم وتصرّ على قمعهم. والمخاوف بشأن المستقبل مشروعة، فتفكّك الدولة السورية أو وقوعها تحت سيطرة جماعات متطرّفة سيناريو كارثي للجميع، ليس لسورية فقط، بل للمنطقة بأكملها. يشيطن الإعلام المصري (الموالي أغلبه للسلطة) الثورة السورية ويشكّك في دوافعها، يفشل في إدراك أن الحلّ لا يكمن في إقصاء طرف لصالح آخر، بل في مساندة السوريين (أيّاً كانت حكومتهم) لضمان استقرارها في المستقبل.
تعقيد الوضع السوري يزيد الضغوط على الدول العربية لإيجاد صيغة تضمن استقرار سورية من دون أن تتحوّل ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية
لا تتوقّف التساؤلات عن مستقبل سورية عند هذا الحدّ، فكيف ستتعامل القوى المنتصرة مع رجال النظام القديم؟ هل سيكون هناك انتقام عنيف قد يؤدّي إلى فوضى جديدة؟ أم ستُعتمَد العدالة الانتقالية وسيلةً للتصالح وإعادة البناء؟ وهل سيرضى أهالي الضحايا ومن نُكِّل بهم بالعدالة الانتقالية ومبدأ الاعتراف والاعتذار مقابل الصفح؟ وكيف ستُدار العلاقة بين الفصائل المختلفة التي كانت متّحدةً ضدّ النظام، وكيف لا يتكرّر ما حدث في أفغانستان بعد خروج السوفييت؟
يتعلّق السؤال الأكبر بدور قوى إقليمية، رغم عدائها إيران ونظام الأسد، قد تجد صعوبةً في قبول انتصار الإسلاميين، وإن تقبّلت الوضع الجديد إعلاءً للمصلحة فكيف سيكون الموقف المصري الرسمي؟ يزيد هذا التعقيد من الضغوط على الدول العربية لإيجاد صيغة تضمن استقرار سورية من دون أن تتحوّل ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية.
القلق من الوضع في سورية مشروع، ولكن استخدامه فزّاعةً للحفاظ على مكاسب شخصية أو لتبرير قمع الشعوب ليس الحلّ. درس سورية واضح: يكمن الحلّ في التعايش، في العدالة، وفي بناء دول تقوم على المؤسّسات لا الأشخاص، وما يحدث في سورية اليوم اختبار حقيقي للمنطقة بأكملها، أنظمة حاكمة وجماعات معارضة، ولذلك يبقى السؤال المطروح: هل نملك الشجاعة للتعلّم من أخطاء الماضي والوصول إلى صيغة للتعايش بين الجميع، أم أننا سنظل عالقين في صراعات الماضي ودوّامة الفشل؟