دروس زلزال المغرب
بعدما دفن المغاربة شهداءهم من ضحايا الزلزال المدمّر، وفي الوقت الذي ما زالوا يضمدّون فيه جراح المصابين الناجين من الكارثة، ممن كُتبت لهم أعمار جديدة، سوف يأتي وقت التوقف لتقييم طريقة تعامل الدولة المغربية مع أكبر كارثة يعرفها المغرب في تاريخه المعاصر، بعيدا عن مشاعر الألم والحزن وعن العواطف الجيّاشة التي تثيرها حالة الخوف والهلع والصدمة جرّاء الأهوال الكبيرة. وبينما غطّى السجال السياسي عن المساعدات الأجنبية، وما رافق ذلك من تفسيرات غير مقنعةٍ تبرّر الرفض بالحفاظ على الكبرياء المغربية وصيانة السيادة المُفترى عليها، أو هكذا أريد منه أن يغطّي على كل الانتقادات عن بطء المساعدات وتأخّرها في عدة مناطق عدة أيام، اختفت كل القراءات العميقة والموضوعية لما جرى، وربما تظهر فيما بعد، بعد أن تلتئم الجراح وتهدأ النفوس وينسى الناس مرّة أخرى معاناة أولئك المعذّبين في الأرض كما تناسوها عدة عقود طويلة.
وبعيدا عن كل ادّعاء بتقييم عمل الرجال والنساء الذين ضحوا بحياتهم من أجل إنقاذ الضحايا، أو الوقوف عند بعض الأخطاء التي تعتبر من طبيعة التركيبة البشرية التي اقترفها بعض "المؤثرين" الذين كان هدفهم هو الحصول على إعجاب متابعيهم، فإن ما جرى في المغرب كان، بكل المقاييس، عملا رائعا أظهر أجمل ما يختزنه المجتمع المغربي من قيم التضامن والتآخي وقت الملمّات الصعبة التي تختبر فيها أصالة الشعوب وقوة تلاحمها وترابطها.
وفي انتظار العودة في مقال مفصّل يحتمل قراءة نقدية وبالموضوعية المتوخّاة لما جرى ويجري، لأن من شأن النقد دائما، حتى في وقت الصدمات الكبيرة، أن يفتح العيون على الأخطاء التي شابت معالجة الكارثة، بعيدا عن اللغة العاطفية المشحونة بنفحةٍ وطنيةٍ مبالغ فيها، يمكن تسجيل الدروس الأولى المستقاة من رحم هذه المحنة التي ما زالت متواصلة بالنسبة للمصابين الذين ما زالوا يضمّدون جراحهم، وللمكلومين الذين ما زالوا يبكون موتاهم، وللمنكوبين الذين سيتعايشون معها عدة أسابيع وشهور، وربما سنوات في انتظار إعادة بناء بيوتهم التي دمّرها الزلزال. أما الجراح النفسية العميقة التي خلفتها الكارثة عند كل من عايشها فسوف تعيش معه طوال حياته.
ولعل أول دروس هذه المأساة هو الذي فتح أعين المغاربة على وجود شرائح واسعة منهم تعيش منسيّةً حياة البؤس والفقر، فإذا كان الزلزال حالة جيولوجية ناتجة من احتكاك صفائح تكتونية وتصدّعات كبيرة وعميقة في أعماق القشرة الأرضية، يعجز العلم والعلماء عن التنبؤ بحالة حركتها، فإن الزلزال الجيولوجي دقّ ناقوس الخطر بوجود صدْعٍ كبيرٍ داخل كتلة بنية المجتمع المغربي بين شرائح تفرّق بينها هوة كبيرة، قد يؤدي احتكاكها إلى انفجار بقوة زلزال اجتماعي كبير يهزّ أركان الاستقرار الظاهر حاليا، المبني على فوارق اجتماعية كبيرة، وعلى لامساواة ظاهرة في توزيع الثروات الوطنية، وعلى انعدام شبه تام للعدالة الاجتماعية.
من مفارقات أزمة الزلزال أن أي مسؤول مغربي، من أي مستوى كان، لم يتوجه إلى الشعب المغربي لمخاطبته ومواساته وتعزيته وليشد من أزره
الدرس الثاني والكبير الذي كشفت عنه هذه المأساة هو ذلك القائل بموت السياسة، ولا يعني هذا غياب النقاش السياسي في لحظة وقوع الأزمة، لأن الأولوية كانت لإنقاذ الأرواح وتضميد الجراح، وإنما غياب الفاعل السياسي طوال فترة الأزمة وحتى يومنا هذا، وهذا ما عكسه الغياب الكبير للأحزاب والنقابات، بل وحتى جمعيات المجتمع المدني الرسمية في الساعات والأيام الأولى لوقوع الكارثة. وهذه نتيجة عملية التجريف السياسي التي مارستها الدولة وأجهزتها الأمنية طوال السنوات الماضية بالإجهاز على الحريات وإخراس كل الأصوات المعارضة والمختلفة، بل وحتى تلك المستقلة. أما مظاهر التضامن الشعبي التلقائي التي تابعناها منذ اللحظة الأولى التي ضرب فيها الزلزال فقد انطلقت بعفوية كبيرة، ولم تنتظر إشارة أو نداء من أي كان، سوى نداء الضمير الإنساني الذي يعمل مثل ساعة بيولوجية لا يحتاج لمن يوقظه لحظة الحاجة إليه. وعكس ما تروّجه وسائل الإعلام الرسمية أن المغرب بلد المؤسّسات، فقد كشفت هذه الكارثة عن وجود فراغ هائل داخل هذه القوقعات المسمّاة مؤسّسات، من البرلمان إلى كل المؤسّسات المنتخبة والمجالس المعينة التي لم يظهر لها أي أثر في معالجة الأزمة، فيما أثبت المؤسسات النظامية التقليدية، مثل مؤسسة الجيش والمؤسسة الملكية، أنهما أكبر مؤسستين يمكن الاعتماد عليهما وقت الأزمات الكبيرة.
الدرس الثالث هو الذي صنعه الشعب المغربي الذي هبّ لنجدة الضحايا، فما حصل، في نهاية المطاف، أن الشعب هو الذي أنقذ الشعب، بدون كثير من الضجيج أو الادّعاء الفارغ، لأن البسطاء الذين تقاسموا زادهم الضئيل مع الضحايا كانت غايتهم إنقاذ بني جلدتهم وليس شيئا آخر، أو لهدف ما غير معلن عنه، ومن لم يجد ما يتبرّع به اكتفى بالدعاء والبكاء. فتحرّك المواطنين المغاربة، منذ الساعات الأولى للكارثة، بكل الوسائل المتاحة والصيغ الممكنة، من المشاركة في الإنقاذ وإسعاف المصابين والتبرّع بالدم وتوفير الطعام، خفّف، إلى حد كبير، من وقع الكارثة وتداعياتها على المنكوبين، وساهم في تقليل الخسائر البشرية، فحجم الكارثة على الأرض كان سيصير مريعا وفظيعا لولا الهبّة الشعبية التي ملأت الفراغ الكبير الذي تركته الدولة في اللحظة الأولى التي ضرب فيها الزلزال. ومن مفارقات هذه الأزمة، أن أي مسؤول مغربي، من أي مستوى كان، لم يتوجه إلى الشعب المغربي لمخاطبته ومواساته وتعزيته وليشد من أزره، كما حصل ويحصل في دول عديدة عريقة عندما تختبرها أزمات قوية فيخرُج بين قادتها وزعمائها ورموزها ومرجعياتها من يواسي شعوبها ويشد أزرها، وهو ما لم يحصل في المغرب، في مفارقة غريبة لا تجد لها أي تفسير أو تبرير.
عسى أن يكون الزلزال فرصة لدفن، ليس الضحايا فقط، وإنما أيضاً دفن الفوارق الاجتماعية التي صنعت من المغرب مغربيْن
درس آخر غير ظاهر، أو لم يلتفت إليه مراقبون كثيرون، وهو اتكال الضحايا على أنفسهم وعلى أقربائهم وبني جلدتهم. وبالرغم من كل الغضب الذي أحسّوا به في بداية الكارثة نتيجة تأخر الغوث، فقد كتموا الغيظ ولم يحتجّوا أو ينتقدوا الدولة ومؤسّساتها، ليس خوفا من عواقب فعلتهم، ففي مثل لحظات الغضب العارم يختفي الخوف، وإنما لأن هؤلاء الناس البسطاء عاشوا سنوات، بل عقودا، منسيين في أعالي الجبال، زادهم هو كدّهم وعملهم، فهم لم يألفوا الاتكال إلا على أنفسهم. لذلك عندما كانوا يشكون كانوا يرفعون أذرعهم إلى السماء في إباء، وهو يتوسّلون الرحمة والمغفرة ممن خلقهم، ولم نر أو نسمع من توسّل منهم إلى الدولة أو مؤسّساتها أو رموزها.
والدرس الآخر، وليس الأخير، لأن الزلزال الجيولوجي الذي حصل في المغرب سوف تكون له ارتداداته الاجتماعية والسياسية على مدى السنوات والعقود المقبلة، تماما كما يحدث عند الملمّات الكبيرة التي تصقل الفكر الإنساني، وتُغنى تجارب الشعوب. وهنا أختم بمقارنة، فقد تبدو بعيدة، مع ما حصل في زلزال لشبونة الذي وقع عام 1755، ووصلت ارتداداته إلى المغرب، ودمرت عديدا من مدنه الشاطئية، فقد أحدث ذلك الزلزال رجّة كبيرة في فكر التنوير الأوروبي الذي أعطى لأوروبا والعالم عصر النهضة وفكر التنوير وكبار مفكريه من أمثال فولتير الذي ترك لنا كتابا عن التفاؤل (كانديد)، يعلمنا أن من رحم المعاناة الإنسانية الكبيرة يولد الأمل الذي يصنع الأمم والشعوب والحضارات الكبيرة، فعسى أن يكون الزلزال الذي ضرب المغرب فرصة لدفن، ليس الضحايا فقط، وإنما أيضا دفن الفوارق الاجتماعية التي صنعت من المغرب مغربيْن، أحدهما نافع وآخر غير نافع، ومن الشعب شعبين، شعب الأحزاب والنقابات الفئوية، وشعب الأغلبية الصامتة المنسية التي توجد في كل مكان من المغرب لا تحتاج إلى زلازل جيولوجية مدمّرة لتكشف لنا عنها، وإنما إلى زلازل سياسية للفت الأنظار إليها والاعتناء بها.