درس آلاء صلاح: الصفر لا يخيف والكرامة قبل الحلم
عندما صعدت الناشطة السودانية، الشابة آلاء صلاح، إلى مسرح "قمة تِد بالعربي" التي عُقدت في المدينة التعليمة بالدوحة، (18 و19 مارس/ آذار الجاري)، لتحكي قصتها، بدأت بسؤال: لماذا يخاف الناس الصفر، وهو العدد الوازن الذي من دونه ستبدو الأعداد الأخرى أقلّ قيمة، ناهيك عن أن من أدخل الصفر ضمن العمليات الحسابية التي نعرفها اليوم هو عالم الرياضيات العربي محمد بن موسى الخوارزمي، الذي اشتُقّ من اسمه أحد أهم العلوم، "الخوارزميات"؟
وقصة آلاء صلاح، التي شاركت جمهور منصة "تد بالعربي" تفاصيلها، بدأت من انخراطها ضمن شباب "الربيع السوداني" والاحتجاجات الشعبية التي اشتعلت نهاية عام 2018 ضد حكم عمر البشير، والتي أسقطته في إبريل/ نيسان 2019.
عندما انطلقت الاحتجاجات، وكان طلاب الجامعات والمدارس، وشباب الحراك المدني عموماً، وقودها الحيوي، كانت آلاء في السنة الأخيرة من دراستها الهندسة والعمارة في جامعة السودان العالمية، وعلى وشك التخرج، وتحقيق حلمها في أن تصبح مهندسة معمارية، لكن الحلم بوطن متحرّر من حكم الاستبداد والفساد، يعيش مواطنوه فيه حياة حرّة كريمة كان أيضاً بين أحلام الطالبة الجامعية، وأحلام آلاف من الشابات والشباب السودانيين، بالقدر الذي هو من أحلام آلاف الشباب العرب، فالتحقت برفاقها. وبفضل شجاعتها، تحوّلت إلى رمز من رموز الثورة، فانتشرت صورها ومقاطع الفيديو، وهي تتقدّم صفوف المتظاهرين، تخطُب فيهم، وتُلهب عزائمهم من أجل مواصلة الثورة إلى أن تحقق أهدافها، حتى لُقبت "كنداكة الثورة السودانية". والكنداكة، في الثقافة النوبية، هي الملكة أو المرأة الشجاعة والمقاتلة.
عندما تُوجت الثائرة الشابة ملكة للحالمين بالحرية والكرامة في بلادها، واجهتْ على الجانب الآخر من الحلم، "معادلة الصفر"
عندما تُوجت الثائرة الشابة ملكة للحالمين بالحرية والكرامة في بلادها، واجهتْ على الجانب الآخر من الحلم، "معادلة الصفر"، فقد وضعتها إدارة الجامعة بين خياري التوقف عن الاحتجاج أو إعادتها إلى الصفر في مشوارها الدراسي، أي أن يُلغى تسجيلها في الجامعة، ومعه كل ما حققته في سنوات الجامعة الأربع. شعرتْ طالبة الهندسة والعمارة، لأول مرة، أن الصفر عدد مخيف، دائرة مجوّفة يمكن أن تبتلع الأحلام، وأن هذا العدد بما يحمله من دلالات العودة إلى نقطة البداية، أو إلى "لا شيء" هو سلاح في يد السلطة، كل سلطة، وعلى كل المستويات، تخيف به من يعارضها أو يختلف معها. هكذا يصبح العدد، الذي يُعطى الأعداد الأخرى قيمة لا متناهية، مصدراً للخوف، للمحو ولتدمير الإنجازات والأحلام، لطيّ الطريق والعودة بالخطوات إلى الوراء وإلى الخطوة الأولى.
ليست سهلة خسارة أربع سنوات من الدارسة والجهد، ولا سيما إذا كان الماضي مفتاح المستقبل، كما في حال الطالب الجامعي. لا أحد يريد العودة إلى الوراء، ولا يوماً واحداً. هكذا تُفكّر السلطة المستبدّة في تعاملها مع الأفراد؛ إشاعة الخوف والتلويح بقطع الطريق وتحطيم الأحلام. لكن أيقونة الثورة السودانية اختارت تحدّي الخوف، ومواجهة الصفر ومغادرة الجامعة. وقالت، على مسرح "قمة تِد بالعربي" قولاً بليغاً ومؤثراً: "خيّروني بين الحلم والكرامة، فاخترتُ الكرامة".
اختيار الكرامة على الحلم يمكن أن يكون جماعياً. عندما تتمرّد الشعوب على القمع والاستبداد، فهي تختار المتغيّر على الثابت، المجهول على المعلوم، لكن بمقدور الجماعة، دوماً، إعادة بناء الأحلام على أرضية الكرامة، بعد مسيرةٍ من النضال والعمل المنظم، كما في الأحزاب وتنظيمات وروابط المجتمع المدني والنقابات، لكن ليس سهلاً على الفرد التنازل عن أحلامه الخاصة من أجل كرامةٍ لن تتحقّق له ما لم تتحقق للجماعة التي ينتمي إليها، وهذه واحدةٌ من أدوات الاستبداد؛ تفكيك الجماعات إلى أفراد، إضعاف الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وقطع الروابط بينها، وإبقاء الأحلام والطموحات فرديةً لا جماعية، ليسهُل التهديد بقتلها، ويكبر الخوف بالعودة عنها. ولعل تماسك العمل الجماعي المدني المُنظّم أكثر ما يميّز مسيرة النضال الشعبي في السودان عن سواه من التجارب العربية.
قالت آلاء صلاح على مسرح "قمة تِد بالعربي" قولاً بليغاً ومؤثراً: "خيّروني بين الحلم والكرامة، فاخترتُ الكرامة"
سقط نظام عمر البشير، بعد 30 عاماً من الفساد والعبث بمقدّرات بلد كان يوصف في سبعينيات القرن الماضي "سلة غذاء العالم". ذهب المستبدّ إلى النسيان، كما سيذهب كل مستبدّ إلى دائرة النسيان ذاتها، ولم يتمكّن ورثته من العسكر من إعادة انتاج النظام، وإبقاء قبضتهم على السلطة، ومن "تصفير" أحلام الطلاب والشباب، لأن شباب الثورة وجدوا في الصفر قوةً للتغيير، لا سلاحاً في يد المستبدّ يمحو به ويُدمر، وكان ذلك درس الربيع السوداني المستمر.
أما آلاء صلاح، التي تنازلت عن الحلم من أجل الكرامة، فهي في دائرة الضوء، تكمل دراسة الهندسة المعمارية في جامعة مانشستر البريطانية، وأصبحت صوت التغيير في بلادها، ومثالاً لتحدّي الذات وتحدّي سلطة الصفر، وقريباً تعود إلى السودان، لتواصل تحقيق الحلم، ولكن في وطنٍ يمضي في طريق الحرية.