درجة عالية من الإثارة لحرب لن تقع

04 نوفمبر 2023

حندي إسرائيلي في موقع في الجليل الأعلى قرب الحدود مع لبنان (1/11/2023 فرانس برس)

+ الخط -

تعني الحرب الإقليمية في الشرق الأوسط التي تردّد الإشارة إليها أطرافٌ عدة في الشرق والغرب أن تشارك إيران بالوكالة في الحرب الإسرائيلية الواقعة على قطاع غزّة، عبر أذرعها في المنطقة، وقد بدا واضحا خلال مجرى الحرب منذ السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، أن هذا "المحظور" مُستبعد وقوعه إلى درجة بعيدة، خلافا لآمال كثيرين ومخاوفهم. وتزداد الدلائل على أن هذه الحرب لن تقع في هذه المرحلة على الأقل، أبرزها أن حزب الله الذي يمثل القوة الضاربة الرئيسية لإيران قد اعتمد أسلوب المناوشات على الحدود الجنوبية للبنان، وهو ما ردّ عليه الجانب الإسرائيلي بالمثل، بعدم توسيع دائرة المواجهة وقصرها على مناوشات منضبطة توفر مخرجا للطرفين، إذ بوسع الطرف الإسرائيلي الادّعاء أن العيون ظلت مفتوحة على جميع الجبهات، وأنه جرى الاشتباك مع حزب الله أولاً بأول، ومن دون تردّد أو تأخير. أما حزب الله (كُتب هذا المقال قبل خطاب أمين عام الحزب حسن نصر الله الجمعة 3 نوفمبر/ تشرين الثاني)، فإنه يسعه القول إنه خاض المعركة ولم يتوانَ عنها، بل إنه كان في قلب المعركة منذ أيامها الأولى، وإنه أوقع خسائر جسيمة في صفوف العدو ومعدّاته، وبذل تضحياتٍ كبيرة على هذا الطريق. مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المناوشات على محدوديّتها، قياساً بحجم الحرب ضد غزّة، تبقى أفضل بما لا يُقاس من صمت المدافع، ودليلاً على أن هناك من يتمسّك بالخيار العسكري في مواجهة احتلالٍ استيطاني عسكري.

واتصالاً مع ذلك، أثارت الملاحظات الانتقادية المخفّفة التي صدرت عن القياديين في حركة حماس، موسى أبو مرزوق وخالد مشعل، بشأن المشاركة الجزئية والمحدودة، هجمة عليهما من الأطراف المحسوبة على الحزب، حيث جرى اتهامهما بـ"التنظير عن بُعد"، وبدا أحد التعليقات لافتاً بمطالبة مشعل أن يؤمّن عن طريقه ثلاثين مليار دولار من أجل تحمّل أعباء مواجهة واسعة، وبما يمكن وصفه بأنه اجتراح، وربما تدشين، "بازار" الحروب. والأهم أن إيران ظلت تطلق تحذيراتٍ على طريقتها من اتساع نطاق الحرب، مشفوعة ببعض "التهديدات"، لكن مؤدّاها أهمية تجنّب الحرب الإقليمية، وذلك بالدعوة إلى وقف إطلاق النار، وهي دعوةٌ مقدّرة بحد ذاتها.

ومن دلائل أخرى أن حزب الله المرشّح لخوض هذه الحرب، والذي يتم تحفيزه عليها من خارج لبنان، لا يجد صوتا مؤيّداً لها داخل لبنان، بالنظر إلى الأوضاع الاقتصادية المتداعية في هذا البلد، ونظراً إلى أزمته السياسية الممتدة مع الفراغ على مستوى رئاسة الجمهورية، وحتى على مستوى رئاسة الحكومة، إذ تحمل حكومة نجيب ميقاتي صفة حكومة تصريف الأعمال. ولئن كان من الصحيح أن الحزب لا يسمع كثيرا للرأي العام اللبناني ولا يستشير الدولة في شيءٍ، بما يتعلق بقرارات الحرب والسلم، إلا أن الخشية الداخلية في لبنان من ثمن الحرب الشاملة توفّر غطاءً مناسباً للامتناع عن دخولها.

السلطة في دمشق نأت بنفسها عن حرب غزّة، إلى درجة أنها منعت المسيرات المؤيدة لصمود غزّة، فيما خرجت عشرات المسيرات في مدن الشمال وبلداته وفي السويداء جنوباً

وبما أن نطاق الحرب قابلٌ لأن يمتد إلى البلد المجاور سورية، لاستهداف مواقع إيرانية هناك بصورة كثيفة، فإن الوضع السوري لا يقلّ تأزّماً وتداعياً على سائر المستويات عن نظيره اللبناني. وقد لوحظ أن السلطة في دمشق نأت بنفسها عن حرب غزّة، إلى درجة أنها منعت المسيرات المؤيدة لصمود غزّة، فيما خرجت عشرات المسيرات في مدن الشمال وبلداته وكذلك في السويداء جنوباً.

وهذا كله من دون التغاضي عن أثر التهديدات الأميركية بالتدخل العسكري في حال اتّساع نطاق الحرب، ودخلت إليها إيران، وقد جاءت التهديدات الأميركية معزّزة بنشر بوارج وأساطيل في البحر المتوسط، بالتزامن مع شن دولة الاحتلال حربها على قطاع غزّة. ومن الواضح أن طهران قد أخذت هذه التهديدات مأخذ الجد، فكان أن جرى اتخاذ قرار بإطلاق مناوشاتٍ منضبطة على الحدود، وكان أفضل ما فيها انتظامها. ووقعت، إضافة إلى ذلك، مشاركة على جبهات أخرى، فأنصار الله (الحوثيون) في اليمن باتوا، بقدرة قادر، أقرب من غيرهم إلى ساحة المعركة. وقد أطلقوا، كما قالوا، صواريخ ومسيّرات نحو العدو، ولم يجر التثبت من إطلاقها من أي طرف آخر، باستثناء صاروخ في الأجواء السعودية تم اعتراضه هناك، حيث سبق أن تعرّضت السعودية لمثل هذه الصواريخ. واستنفر الحشد الشعبي العراقي لدخول المعركة، ووصلت قوات منه إلى الحدود مع الأردن من أجل عبور البادية الأردنية نحو الحدود مع فلسطين، وقد تجاهل القائمون على الحشد تحالفهم مع دمشق، فلم يقصدوا جبهة الجولان، ولا اندفعوا إلى جنوب لبنان لكي يرفدوا المعركة مع حليفهم هناك... على هذا النحو، تعدّدت وتضافرت ساحات المواجهة.

تلك هي الدلائل المستجدّة التي تنطق بها مجريات الأسابيع الثلاثة الماضية. أما قبل ذلك، وإلى أمد طويل، فقد شن الاحتلال خمس حروب منذ انسحابه من قطاع غزّة في العام 2005، ولم تتقدّم إيران، عبر حزب الله، للمشاركة في الحرب، وكانت مناشداتُ تصدُر طوال تلك الحروب لتدخّل إيراني من غير استجابة لها. وفي الوقت ذاته، تجنّبت طهران الرد على ما لا يُحصى من اعتداءات إسرائيلية على مواقعها في سورية، حتى تحوّل الامتناع الإيراني عن الردّ إلى نهج ثابت لا يتزحزح، فكيف لمن يأبى الدفاع عن النفس أمام المعتدي أن يبادر إلى موقف هجومي ضد الاحتلال؟.

 

على أن الحروب قد تقع أحيانا من غير إرادة اصحابها، نتيجة وقوع خطأ جسيم ما في التقدير أو السلوك تجاه الطرف الآخر. وبهذا المعنى، تبقى احتمالات توسّع نطاق الحرب على غزّة ضعيفة، وسائر الشواهد تنبئ باستبعاد وقوعها، من دون نفي إمكانية وقوعها بالمطلق.

يتم تحفيز حزب الله على الحرب من خارج لبنان، ولا يجد صوتاً مؤيّداً لها داخل لبنان، بالنظر إلى الأوضاع الاقتصادية المتداعية في البلد

وهناك في واقع الأمر قدرٌ من الالتقاء الموضوعي العربي الإيراني على مناوأة الاحتلال الإسرائيلي، وعلى رفض استمراره وتغوّله. وسبق لإيران أن ساهمت في دعم تنظيماتٍ بعينها في غزّة بالسلاح والمال، قبل أن تعتمد هذه التنظيمات على الذات في بناء قدراتها العسكرية، غير أن ذلك الدعم قد تم وفق منظور السعي إلى تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، ولا ضير أن تلتقي المصالح عند نقطة معينة كهذه، إلا أن ذلك لا يعني أن إيران تتبنّى المشروع الوطني الفلسطيني حرباً وسلماً، أو تنوي أن تخوض بنفسها حرباً ضد الاحتلال، أو عبر ذراع رئيسي لها مثل حزب الله، إذ يبقى الهدف الإيراني الأكبر تعزيز النفوذ السياسي والمسلح خارج إيران بالتراكم. ومن الواضح أن خوض حرب في المنظور الإيراني قد يؤدّي إلى المجازفة بالقدرات الكبيرة التي تم بناؤها وتعريضها للخطر أو إلى خسائر جسيمة يصعب تعويضها خلال أمد قصير. وبهذا، تسعى طهران إلى تجنّب خوض حربٍ أو صراعٍ مسلح مع الدولة العبرية، بصورة مباشرة أو ضمنية، وسبق لتل أبيب أن شنّت جملة من الاعتداءات على الأراضي الإيرانية، طاولت منشآت حسّاسة وشخصيات رفيعة، من غير ردّ مرئي أو ملحوظ من طهران على هذه الاعتداءات.

وفي الرصيد المترصد، إضافة إلى التسليح في مرحلة سابقة، يبقى الدعم السياسي والمعنوي من طهران للحقوق الفلسطينية، ومساهمتها بالحدّ في مناطق نفوذها من موجة التطبيع العربي الرسمي مع دولة الاحتلال، وذلك كنتيجة عَرَضية إيجابية لهذا النفوذ، إلى جانب النتائج السلبية، ممثلة بإضعاف الدول الوطنية وهتك النسيج الاجتماعي للمجتمعات العربية في مناطق النفوذ.