دراما جمال ناجي الأخيرة

15 مايو 2020
+ الخط -
اكتمل، قبل أيام، عامان على وفاة الروائي الأردني (والفلسطيني)، جمال ناجي عن 64 عاماً. وهذا ليس مناسبة كتابة هذه المقالة، وإنما موسم الدراما العربية في شهر رمضان الجاري، من مدخل الرواية التاسعة، والأخيرة، للكاتب، "ثلوج الليلة الأخيرة" (دار الشروق، عمّان، 2019)، والتي صدرت بعد وفاته. وفي البال أن موسم دراما رمضان العام الماضي شهد بثّ مسلسلٍ سوري عن رواية الصديق الراحل "عندما تشيخ الذئاب"، بالاسم نفسه، (صدرت في عام 2008)، وفيما تدور وقائعها في عمّان، وفضاءاتُها وشخصياتُها من الأردن، إلا أن السيناريست حازم سليمان، والمخرج عامر فهد، تمكّنا من سوْرنتها، ونجحا في ذلك. وكان مسلسلٌ تلفزيونيٌّ سابق قد أُنجز باسم "وادي الغجر" قد نهض على رواية جمال ناجي "مخلّفات الزوابع الأخيرة" (1988). وفي الوسع القول إن جميع روايات كاتبنا، منذ أولاها "الطريق إلى بلحارث" (1982)، مغريةٌ جداً لصناعة مسلسلاتٍ درامية منها، غير أن من المهم تأكيد أن جمال ناجي كان يكتب روايةً (له أربع مجموعات قصصية أيضاً) وحسب، صدوراً عن خياراته السردية، وجماليات الحكي والقصّ التي وجدها مناسبةً لمزاجه، ولتصريف منظوراته وتصوّراته، ولم يكن يكتب للتلفزيون.
"ثلوج الليلة الأخيرة" هي رابعة روايات جمال ناجي (كما أظن) التي ينهض بناؤها على تقنية تعدّد الأصوات، والتي يتناوب فيها ساردون الحكي، بلغة ضمير المتكلّم لكل منهم، ليلملم كلامهم الحكايات الفرعية، وبما يخدم الحدث الرئيسي في العمل. وقد أتقن كاتبنا في هذا النص، كما في أغلب نصوصه، لعبة التشويق الجذّابة، في تشييد قصّةٍ تقوم على مقادير من الغموض والالتباسات، بالإفادة من خبرته الكتابية في ترسيم الشخصيات، وتعيين مختلف جوانبها الظاهرة والجوّانية، وباستثمار طاقته التخييلية والحكائية، كما بالاستئناس بما في القصة البوليسية (وإنْ بمقدارٍ طفيف) من إمكانات. وفي ذلك كله، وغيره، كان جمال ناجي وفياً، إلى حد كبير، لخياره الذي انطبعت به أعمالُه، في العموم، وهو التخفّف من التجريبية في الكتابة السردية، المتطرّفة منها خصوصاً، التي تولي المكانة الأعلى للغة المجازات والإيحاءات والظلال، وتتوسّل تداخلات الأزمنة والأمكنة بطرائق تفرض على القارئ جهداً خاصاً لفكفكتها. لم يذهب جمال ناجي إلى شيءٍ من هذا، وإنْ حضر بعضٌ منه بالكيفية التي توزّع الحدث (أو الأحداث) على عدة شخوص لروايته.
ثلاث شخصيات، عثمان وسهاد وكايد، يتناوبون الحكي في "ثلوج الليلة الأخيرة"، الريبة والأسرار المكتومة والعلاقات المشحونة بالغموض بعضٌ مما بينهم. يتزوج عثمان وسهاد ثم يتطلقان بعد عام، وتربط بين عثمان وكايد شبه صداقةٍ من نوع خاص. يأوي كايد سهاد في منزل، تكتشف أنه لأمها التي تطلقت وغادرت البلاد مع زوجٍ آخر، تعرف سهاد أنه شقيق كايد، وهذا يمارس التهريب ويتاجر في ممنوعات، تحت غطاء اقتناء لوحات تشكيلية. تحدُث جريمة قتلٍ غامضةٍ تودي بتشكيليٍّ سوري، كان عثمان قد استضافه مرّة في منزله، وتستسلم له لاحقاً سهاد المطلقة مرة وحيدة. وقد تتابعت هذه الحوادث، وكثيرٌ غيرها، بإحالاتٍ وانزياحات إليها. وقد لجأ جمال ناجي إلى ما سمّاها "ليلة المعطف"، وهي ليلة ثلوج في عمّان، لمّا استبدل كايد وعثمان معطفيهما، خطأً وسهواً (وإنْ بدا تالياً أن ذلك بتدبير من عثمان)، لينبش كل منهما في الهاتف النقال للآخر، وليعرفا عن بعضهما ألغازاً وأموراً لم يكن أي منهما يعرفها عن الآخر. إلى هذا كله، ثمّة وقائعُ أخرى، وشخصياتٌ أخرى، في 277 صفحة، تصنع كلها حكايةً شائقةً، ينجذب إليها القارئ بمتعة، وبانشدادٍ إلى التفاصيل والأجواء، وإن يُلحظ في غير مقطعٍ هنا وهناك ما قد لا يكون مقنعاً بالدرجة الكافية، وإن احتاجت الرواية ربما إلى جلاءٍ أكثر للفضاء العام الذي تتحرّك بها الشخصيات.
كل إيجازٍ مخلّ، كما كتب صاحب هذه الكلمات في هذا الموضع مرّات، وليس الغرض هنا "تلخيص" آخر روايات صانع الحكايات، جمال ناجي، وإنما التنويه بعملٍ روائيٍّ يكون جميلاً من أهل صناعة الدراما، في الأردن أو غيره، أن يلتفتوا إليه، لإنجاز مسلسلٍ تلفزيوني منه، سيكون شائقاً (ومسلياً، لم لا؟) على الأرجح، إذا ما أتقن سيناريست محترفٌ وخبير، ومخرجٌ ذوّاق وحاذق، عملهما. شوهد "عندما تشيخ الذئاب" في موسم دراما رمضان 2019، هل نشاهد في موسم دراما رمضان 2021 "ثلوج الليلة الأخيرة"؟
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.