خُذ بالك من سمعتك الإلكترونية
مرّة تقدّمت لمنحة، وكان بين الشروط أن تضع روابط صفحاتك على مواقع التواصل الاجتماعي ضمن مواد الملف. فاجأني هذا، فلا شيء يربط المطلوب بالمنحة، ولا يجوز أن يكون. هذا ما كان ينقصك .. أن تصبح صفحاتك الشّخصية التي تنشر فيها ما خطر لك وعلى هواك، معتقدا أنّها نوافذ تثرثر عبرها مع جيرانك في الحيّ الافتراضي الذي تُكوّنه على مزاجك؛ لترمي في الهواء ما تفكر فيه، وما يزعجك، أو مواقفك تجاه الأحداث، أو لعلّك تكتفي بأن تنثر خزعبلات تضحك فيها على نفسك، أو مع أصدقائك، لتتنفّس وتُنفّس .. أن تصبح هذه النّوافذ والشقوق الصّغيرة عامل حسم في حياتك المهنية أو الإبداعية.
خطر لي هذا الحدث، لمّا صادفت إعلانا لصفحة تتضمن محتوى إلكترونيا، يقول صاحبها فيه: خذ بالك مما تنشره على صفحتك، لأنّ مشغّلك القادم قد يدخل إليها، ويتعرّف إلى طريقة تفكيرك، من خلال محتواها. لذا انتبه إلى ما تنشره، حتى لا تتسبب سمعتك الإلكترونية في إفساد صورتك المهنية.
حيثما ذهبتَ، أنت قيد التّصوير، ومع ذلك تخرق بعض القوانين مع علمك أنك ستقع في مصائب بسبب ذلك، لأنّ الحرية التي كانت لأسلافك تجري في دمك.
هكذا تصبح هذه الصّفحات التي نرفّه فيها عن أنفسنا شاهدا علينا، وعلى طريقة تفكيرنا وحياتنا.. هذا ما كان ينقصنا لنختنق. إنه أشبه بأن يُنصّب أحدهم ظلّك جاسوساً عليك. تعلم أنّه موجود، وهو يعلم، وأنكما تعلمان بكل ما يفعله كلاكما، لكنك وحدك من عليه أن يعيش مع هذه الحقيقة، موهما نفسه بأنّ له خصوصية ما.
تذكّر هذه الرقابة البعدية بالأفلام عن مدن وعوالم منشأة على أساس مراقبة دائمة. حيثما ذهبتَ، أنت قيد التّصوير، ومع ذلك تخرق بعض القوانين مع علمك أنك ستقع في مصائب بسبب ذلك، لأنّ الحرية التي كانت لأسلافك تجري في دمك. ستنتصر على الرقابة التي تدخل في حربٍ مكشوفة معها، في ساحة مفتوحة، تراك فيها ولا تراها، ولا تعرف من أين ستأتيك الضربة.
معظم هذه الأفلام قائم على حبكة رواية "1984" لجورج أورويل، وعلى فكرة "الأخ الأكبر" الذي يراقب كل شيء، حتى الضّمائر… والعجيب أنهم يمارسون حياتهم على الرغم من علمهم أن كل حركة وسكنة تحت عين عملاقة. والأعجب أن بعضهم يمتلكون جرأة مخالفة أوامر العين، والتصرّف بما يخالف مذهبها تحت نظرها، لأنه لا مجال لغير ذلك. إذ ما معنى الحياة بدون مغامرة.
يجعل بعضهم من صفحته بسطةً لتوسّل العطف، بشتى الطرق، حتى لو نشر صور أقاربه الموتى، وأولاده في المستشفيات
والطريف أن الجريمة الأكبر في تلك الأجواء المراقبة هي الحب. لا أعرف لِمَ يجد كتاب السّيناريو أن الحب هو المغامرة الكبرى التي يقوم بها إنسان محروم من إنسانيته؟ لعل الحب حقًا هو نقطة ضعف الإنسان الأكبر، وأكثر ما يحفّزه على اقتراف الحماقات، أو لعل ذلك كله يسعى إلى جذب تعاطف الجمهور، أو لعل أحدهم ذو أصل عربي، تستثيره قصص الحب أكثر من أي نوع آخر من الدراما الإنسانية.
من جهة أخرى، لماذا تزعجنا مواقف شخصيات معروفة، على الرغم من أن لها كل الحق في التفكير الذي قد نصفه نحن بالغبي أو السّطحي، فننكره عليها بسبب شهرتها، أو بدعوى النّموذج الذي تقدّمه، ما يجعلنا نعتقد أنه من حقنا انتقاده ومحاسبته. بينما يذهب بعضهم أبعد من ذلك، فيدخل حاملًا سيف دون كيشوت، ليبدأ حربا وهمية معه، باذلاً جهداً وطاقة في محاسبة هذه الشّخصية ومعاقبتها على مواقفها.
ولن يختلف ذلك عن آخرين لا يملكون مواقف يعبرون عنها، ولا خوف عليهم من آثارها، لكنهم يمارسون الحد الأقصى من الديمقراطية الافتراضية؛ يجعل صفحته بسطةً لتوسّل العطف، بشتى الطرق، حتى لو نشر صور أقاربه الموتى، وأولاده في المستشفيات، أو وضع صورته وهو بالبيجاما مرتميا في ركن من صالونه، حزين المحيّا، مكشّر الوجه، أو مربوطا إلى أنابيب وإبر، أو على إصبعه ضمادة صغيرة حتّى. وهناك من جعلها باب رزق، ووضع كل حركةٍ وسكنةٍ في ركن التّعريف به؛ مرة رأيت سيرة تتجاوز عشرات الصّفحات على جدار أحدهم، وكانت الإنجازات من قبيل مشاركة في برنامج كذا، مسؤول كذا في جمعية كذا، ومنسق لمّة أصحابه في "قهوة العشماوي"، وسبق له أن أجرى مكالمةً هاتفيةً مع شخصٍ مهم، وهو نائب رئيس هذا المهرجان الغنائي ومدير هذا المهرجان الزجلي، وبواب مهرجان "سحر القوافي في مقهى العوافي".
نستشعر ونشم عادة رائحة الشخص من منشوراته؛ نعرف أنه مدّع أو زائف
هذا لا يقارن بالأشياء الغريبة التي تسمعها من شخص يقدّم لك صورة مغايرة في "فيسبوك" عن الواقع، ويقول بشكل عادي: "لا تصدقي ما أكتبه هناك .. هو شيء خاص بفيسبوك فقط". إنّه مجرد دور فقط في نظره؛ فينشر مواقف حداثية، وهو محافظ حتى إصبعه الأصغر، أو يقدم نفسه شخصا عاقلا أو متزنا أو بالغ التدين، وهو في الواقع خفيف العقل والرجل واليد .. فكيف يريد أصحاب الشركات والمشاريع وأرباب رزقنا الآتي أن يحكموا علينا من صفحاتنا؟ وهم أدرى من حيث معرفتهم بتجرّد التجارة من أي عوامل إلا قانون العرض والطلب، أنّ المظاهر خدّاعة.
مع ذلك، لا يكون التمثيل سهلا كما نظن؛ فكما يحتفظ القتلة المتسلسلون بتذكارات ضحاياهم، على الرغم من علمهم أن هذا قد يؤدّي بهم إلى الإعدام. إذ ليس للنّفس على الهوى سلطان، فيترك الممثلون بعض الملامح تظهر منهم على الصّفحات، وربما تتسلل رغما عنهم، فالطبع يغلب التطبع. لذا قد تغيب عنا تفاصيل كثيرة، لكننا نستشعر ونشم عادة رائحة الشخص من منشوراته؛ نعرف أنه مدّع أو زائف، أو كاذب أو متطرّف، أو سطحي أو وغد، أو محترم .. ذلك كله يصعد إلى السّطح مثيراً روائح بلا عدد.