خلاصات أولى لـ''طوفان الأقصى''
لم يكن ما حدث، السبت الماضي، مجرّد مقطع عابر في مسار الصراع مع العدو الصهيوني، بقدر ما كان تحوّلا نوعيا في هذا المسار، وقد يصبح مفصليا إذا ما نجحت المقاومة الفلسطينية في الخروج منه بأقلّ الخسائر وجنْيِ عائدٍ سياسيٍّ، يعيد التوازن إلى القضية الفلسطينية التي تريد القوى الدولية الكبرى التخلص من أعبائها السياسية والأخلاقية بمباركة من حلفائها في الإقليم.
من الصعب حصر كل خلاصات ''طوفان الأقصى''، بالنظر إلى الارتجاج الكبير الذي خلفته على الصعيدين الإقليمي والدولي. لكن ذلك لا يمنع من تسجيل بعض الخلاصات الأولية. أولاها، توقيت العملية الذي لا يخلو من دلالة؛ فقد اختارت المقاومة الفلسطينية يوم السبت، وهو يوم إجازة رسمية في إسرائيل، لإطلاق ''طوفان الأقصى''، الذي تزامن، كذلك، مع الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر التي انطلقت شرارتها يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 بهجومٍ مباغتٍ شنّته القوات المصرية على قوات الاحتلال الإسرائيلي في شبه جزيرة سيناء. ما يعني أن المياه الكثيرة التي جرت تحت جسور السياسة في المنطقة، خلال أكثر من نصف قرن، لم تغيّر من حقيقة الصراع باعتباره مواجهةً ضد المشروع الصهيوني الذي يستهدف شعوب المنطقة بأسرها. وقد كانت دالّة أيضا ردود فعل معظم الدول الغربية في دعمها غير المشروط للكيان الصهيوني، وتنصّلها من الكلفة الأخلاقية لعدوانه على غزّة، ما يعكس حقيقة هذا الكيان حلقةً رئيسةً ضمن مشروع استيطاني واستعماري ترعاه هذه الدول.
تتعلق الخلاصة الثانية بنجاح المقاومة الفلسطينية في تنويم العدو الصهيوني، وإعطائه الانطباع بأن أقصى ما في وُسعها القيام به لا يتعدّى رشقه بصواريخ تُلحق به بعض الأضرار، من دون تأثيرٍ كبيرٍ على مسار الصراع. فلم ينجح أي طرفٍ، سواء المقاومة أو قوات الاحتلال، خلال السنوات القليلة الماضية، في فرض معادلة ردع تُغيّر قواعد الاشتباك. فغالبا ما كانت المواجهات السابقة بين الطرفين تبدأ بإطلاق المقاومة صواريخ نحو العمق الإسرائيلي ردّا على استفزازٍ معيّنٍ من قوات الاحتلال، تُقابلُه إسرائيلُ بقصف قطاع غزّة واستهداف المدنيين، ثم يعقب ذلك وقفٌ لإطلاق النار بوساطة مصرية. جعل هذا الوضع اليمين الإسرائيلي المتطرّف يتغوّل أكثر في اعتداءاته التي بلغت أوجها بمحاولة فرض الأمر الواقع في المسجد الأقصى، بتكريس اقتحامه يوميا تمهيدا لتقسيمه ثم السيطرة عليه بالكامل. من هنا، يفسّر النجاح الاستخباري الذي حققته المقاومة في هذا الصدد حالة الإرباك الكبيرة التي عمّت مختلف مواقع صنع القرار في دولة الاحتلال خلال الساعات الأولى التي أعقبت ''طوفان الأقصى''.
الخلاصة الثالثة، سقوط أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر. صحيحٌ أن الجيوش العربية نجحت نسبيا، في حرب أكتوبر (1973)، في تكبيد هذا الجيش خسائر فادحة، لكن ذلك كان ضمن مواجهةٍ عسكريةٍ نظاميةٍ محكومةٍ بحسابات سياسية إقليمية ودولية معلومة. لقد كشف ما حدث في ''طوفان الأقصى'' أن هذا الجيش أوهن من بيت العنكبوت. ومن المؤكّد أن الخسائر الثقيلة التي تكبدها في الأرواح والعتاد ستكون لها تداعيات عميقة على المجتمع والهوية الإسرائيليين في الأعوام المقبلة. هناك شعورٌ عام بالصدمة والإهانة والخوف وسط الرأي العام الإسرائيلي، ولا سيما بعد انتشار صور ومشاهد تُظهر أسر عناصر المقاومة عشرات الجنود والمستوطنين ونقلِهم إلى داخل قطاع غزة.
الخلاصة الرابعة تخصّ موقع اتفاقات التطبيع، التي أبرمتها دول عربية مع إسرائيل، داخل سيرورة القضية الفلسطينية. من الواضح أن المقاومة الفلسطينية كانت حريصة على إيصال رسالة إلى دول الإقليم والغرب أنها غير معنيّة بالاتفاقات المبرمة أو التي قد تُبرم في المستقبل. وهو ما يعني، من منظورها، أن قضية فلسطين وحساباتِها باتت شأنا فلسطينيا خالصا، لا صلة لها بالحسابات التي تحرّك الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل. ولا شك أن ''طوفان الأقصى'' سيربك حسابات هذه الدول ويُحرجها أكثر، خصوصا إذا ما نجحت المقاومة في إرساء معادلة ردع جديدة وفرضها على إسرائيل.