خطط توسيع الناتو والمظالم التركية
تُعرف عن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، براعته في إتقان فن اللعب على التناقضات في علاقات بلاده الخارجية، وتحويل الأزمات إلى فرص. وأحدث مثال على ذلك معارضته مساعي انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مستشهداً بتاريخ البلدين في احتضان مؤيدين لحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية وتنظيم فتح الله غولن. على الرغم من أن أنقرة تتبنّى موقفاً مبدئياً داعماً لتوسيع الحلف، إلاّ أنها غير مستعدّة الآن للموافقة على ضم الدولتين من دون الحصول على مكاسب. عندما أعلن أردوغان، الأسبوع الماضي، أن بلاده ستُعارض توسيع "الناتو"، قدّم المسؤولون الأتراك قائمة من الشروط للسويد وفنلندا مقابل الموافقة على انضمامها للحلف. وكان في مقدمتها تسليم مطلوبين لأنقرة يعيشون في البلدين، والإقرار علناً بأن الوحدات الكردية تنظيم إرهابي، فضلاً عن رفض القيود التي فرضها البلدان على المبيعات العسكرية لتركيا، قبل ثلاثة أعوام، رداً على هجومها على الوحدات الكردية. لكنّ هذه القائمة توسّعت ضمنياً فيما بعد، لتشمل دعوةً من أردوغان إلى "الناتو" لدعم إنشاء منطقة آمنة على الحدود التركية السورية لإيواء اللاجئين وضمان أمن الحدود الجنوبية لتركيا. كان ذلك بمثابة مؤشّر واضح على أن الاعتراض التركي لا يتعلق بالمشكلة مع فنلندا والسويد فحسب، بل يرتبط بقائمة طويلة من المظالم التركية مع شركائها الغربيين.
في أعقاب اندلاع الأزمة التركية الروسية على خلفية إسقاط تركيا المقاتلة الروسية في سورية عام 2015، لم يستجب "الناتو" لدعوة أنقرة إلى الدفاع عنه
إحدى المميزات الرئيسية التي دفعت كثيرين من أعضاء "الناتو" إلى الانضمام إليه بعد تشكيله في خمسينيات القرن الماضي كانت الضمانة الأمنية الجماعية التي يمنحها الحلف لأعضائه. مع ذلك، لم تجد أنقرة أنها استفادت بالشكل الكافي من هذه الميزة، حتى في الظروف التي كانت في أمس الحاجة إليها. في أعقاب اندلاع الأزمة التركية الروسية على خلفية إسقاط تركيا المقاتلة الروسية في سورية عام 2015، لم يستجب "الناتو" لدعوة أنقرة إلى الدفاع عنه. وعندما أطلقت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية والعراق، قدّمت الدول الغربية الدعم العسكري لوحدات حماية الشعب الكردية التي تُصنفها أنقرة منظمة إرهابية. كما عارضت الولايات المتحدة، ولا تزال، طلب تركيا تسليمها فتح الله غولن، الذي تتهمه أنقرة بالضلوع في محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في صيف 2016. وقبل عامين، فرضت الولايات المتحدة عقوباتٍ على تركيا لشرائها منظومة إس 400 الصاروخية من روسيا، وأخرجتها من مشروع تصنيع مقاتلات إف 35... وقائمة المظالم التركية تطول. على مدى السنوات الماضية، واصلت واشنطن مماطلتها في نقاش حقيقي لهذه المظالم، لكنّ الثمن الذي تكبّدته العلاقات التركية الغربية كان كبيراً. واختارت أنقرة الدخول في شراكة متعدّدة الأوجه مع روسيا، بينما استمرت العلاقات التركية الأوروبية بالتراجع، بعد أن فقدت أنقرة الأمل في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
على عكس الظروف الماضية التي لم تسمح لتركيا بفرض مظالهما على الغربيين، فإن الظروف الحالية تُساعدها في ذلك. بقدر ما شكلت الحرب الروسية على أوكرانيا تحدّياً كبيراً أمام أنقرة لموازنة علاقاتها بين موسكو والغرب، فإنها وجدت فيها فرصةً لإعادة تشكيل علاقاتها مع الغربيين على قاعدة أكثر توازناً مما كانت عليه خلال العقود الماضية. لقد أعادت هذه الحرب القيمة الجيوسياسية لتركيا بالنسبة للغرب على أكثر من صعيد. كان من المقرّر أن يزور وفد فنلندي وسويدي أنقرة للتوصل إلى تسوية بشأن المطالب التركية، لكنّ أردوغان أغلق الباب أمام الزيارة، ليس لقطع الطريق على انضمام الدولتين إلى "الناتو"، بل لعدم حصر قائمة المطالب بهما. ولا تبدو مصادفة أن الجدل الذي أوجدته أنقرة، بخصوص توسيع "الناتو"، تزامن مع زيارة وزير خارجيتها إلى نيويورك لعقد أول اجتماع للجنة المشتركة الأميركية التركية، التي تشكلت أخيرا، بهدف إيجاد حلول للقضايا الخلافية بين البلدين، وهي كثيرة ومعقدة. وعلى الرغم من جدّية أنقرة في التمسّك بموقفها من توسيع الحلف، أبدت واشنطن ثقة بتجاوز هذه الإشكالية، في مؤشّر على استعدادها لتقديم بعض التنازلات لأنقرة، لا سيما في مسألة صفقة بيع مقاتلات إف 16 لها.
استجابة السويد للمطالب التركية لا تبدو ميسرة، وأي تحرّك بهذا الاتجاه يُمكن تفسيره تملقا لأردوغان وقد لا يحظى بشعبية لدى الناخبين السويديين
بالنظر إلى أن ما تطلبه أنقرة الآن للموافقة على ضم فنلندا والسويد إلى حلف الناتو يتعلق، بشكل أساسي، بخلافاتها العميقة مع الدول الغربية بشأن مسألة مكافحة الإرهاب والعقوبات، فإن الجدل المثار بهذا الخصوص يفتح نقاشاً واسعاً بين تركيا والغرب في معظم القضايا العالقة. مع ذلك، لا يزال من غير الواضح بعد ما إذا كان الغربيون مستعدين بالفعل لتقديم تنازلاتٍ لكل ما تطرحه أنقرة، لا سيما أن هذه التنازلات لن تعني فقط التأكيد في الموقف السياسي على دعم تركيا في كفاحها ضد الإرهاب، بل ستدفع الغربيين إلى إحداث تغيير جذري في مقاربتهم بعض القضايا الرئيسية مع أنقرة، كالمسألة الكردية، والانخراط، بشكل فعال، في دعم الجهود التركية لتحقيق الاستقرار في المناطق الآمنة التي أنشأتها في شمال سورية لإيواء اللاجئين، وما يتطلبه ذلك من تقديم دعم مالي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي في هذه المناطق، لتهيئة الأرضية لعودة طوعية للاجئين، مع الأخذ بالاعتبار أن جهود تركيا لإعادة اللاجئين لن تخدم فحسب استراتيجية أردوغان في تخفيف عبء اللاجئين على بلاده، بل تصبّ كذلك في صالح الدول الأوروبية، كونها ستمنع مستقبلاً تدفق موجات لجوء جديدة صوب أوروبا في حال تدهور الأوضاع في شمال سورية.
في ظل أن النقاش الرئيسي في مسألة توسيع "الناتو" يتعلق بالسويد وفنلندا، يريد أردوغان من هاتين الدولتين إدانة حزب العمال الكردستاني والجماعات التابعة له علنًا، شرطاً لانضمامهما إلى "الناتو". كما يريد منهما الضغط على المتعاطفين مع حزب العمال الذين ينشطون في بلدانهم، فضلاً عن رفع قيود تصدير الأسلحة على تركيا. ولكن الاستجابة للمطالب التركية لا تبدو ميسرة، وأي تحرك بهذا الاتجاه يُمكن تفسيره تملقا لأردوغان وقد لا يحظى بشعبية لدى الناخبين السويديين. ومن المرجح أن تقاوم حكومة أندرسون الانجرار إلى مفاوضاتٍ بشأن سياسة تسليم المجرمين، على سبيل المثال، أو صادراتها من الأسلحة. بدلاً من ذلك، من المرجّح أن يحاول الدبلوماسيون السويديون تجنيد الحلفاء للضغط على تركيا، حتى لا تمنع انضمام بلدهم إلى "الناتو". أما الخلاف مع فنلندا فهو أقل تعقيداً، فلا توجد في البلد أقلية كردية كبيرة. أوقفت فنلندا، مثل السويد، صادرات الأسلحة إلى تركيا في 2019، لكن هذه التجارة كانت صغيرة. في العقد الماضي، صدّرت فنلندا ما قيمته 60 مليون يورو من السلع المصنفة أسلحة إلى تركيا، بما في ذلك الذخيرة ومعدّات الحماية واللوحات المدرّعة.
تنطوي اللعبة التي يُمارسها أردوغان على بعض المخاطر، وقد تؤدّي إلى انهيار أعمق في علاقات بلاده مع الغرب
على عكس تعقيدات الموقف الغربي من المسألة الكردية، قضية صفقة مقاتلات إف 16 غير معقّدة مع ميل إدارة الرئيس جو بايدن إلى تمريرها. مع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة متردّدة في رفع العقوبات التي فرضتها على صناعات الدفاع التركية. على الرغم من أن هذه العقوبات لم تكن مؤثرة بشكل كبير على أنقرة، إلاّ أن رفعها يكتسب أهمية كبيرة بالنسبة لأردوغان. ولم تُفعل تركيا منظومة إس 400 الروسية على الرغم من مضي عدة سنوات على شرائها، وهو ما ترك الباب مفتوحاً أمام التفاوض بين أنقرة وواشنطن بخصوص هذه المسألة. على اعتبار أن معظم القضايا الخلافية بين أنقرة والغرب مرتبطةٌ بعضها ببعض، فإن حدوث تقدّم في إحدى هذه القضايا سينعكس إيجابيا على مواقف الطرفين في القضايا الأخرى. سيواصل أردوغان الضغط على الغرب أملاً في دفعه إلى تبنّي مقاربة جديدة شاملة للعلاقات مع تركيا، التي يبدو أنها تعلمت من أخطاء الماضي، وأصبحت أكثر عناداً في إجبار الغربيين على النظر في قائمة مظالمها وعدم منحهم كل ما يُريدونه منها من دون مقابل. علاوة على ذلك، لا يصبّ عامل الوقت في الأزمة الجديدة بشأن توسع "الناتو" في صالح الغرب، فبقدر ما لضم فنلندا والسويد إلى الحلف أهمية حيوية له، فإن الإسراع في هذه العملية يكتسب أهمية كبيرة أيضاً، ما يُقلّص من فرص المناورة أمام الدول الغربية للتهرّب من الاستماع للهواجس الأمنية التركية. مع ذلك، تنطوي اللعبة التي يُمارسها أردوغان على بعض المخاطر، وقد تؤدّي إلى انهيار أعمق في علاقات بلاده مع الغرب.