خطابات متصادمة في العام الثاني للحرب الأوكرانية
أكّد الرئيس الروسي بوتين في خطابه، الأسبوع الماضي، أمام مجلس النواب الروسي أن بلاده مستمرّة في الحرب ضد أوكرانيا، وقام بتعليق المعاهدة الروسية الأميركية "نيو ستارت" للأسلحة النووية، وهدّد الغرب بأنّ روسيا ساعيةٌ إلى نظامٍ عالميّ متعدّد الأقطاب. لم يتضمّن خطابه أيَّ تراجعٍ عن الحرب، بل إن التعليق هذا، والقول إن روسيا في حربٍ وجوديّة، يستدعي من جديد إمكانية استخدام السلاح النووي، وهنا يجب الانتباه لجملة بوتين: إن روسيا لا يمكن أن تُهزَم في المعركة. إذا ليس من الصحيح أن إمكانية استخدام السلاح النووي قد رُفِعت عن طاولة بوتين.
قبل هذا الخطاب، عُقِدَ مؤتمر الأمن في ميونخ، وتضمّنت خطابات قادة الغرب تنديدا بحرب روسيا، وأكدت الدعم المستمر لأوكرانيا؛ ولم تُدعَ إليه روسيا، ولولا خطاب الصين المؤيّد للعودة إلى الأمم المتحدة، والدعوة إلى السلام من جديد، لكان المؤتمر ساحةً لخطابات الحرب ضد روسيا؛ طبعا روسيا محتلة لأوكرانيا، ويجب أن تنسحب منها وتُحاسَب على فعلتها، ولكن هل هذا ممكن، وكيف، أم أنَّ الأمر قُضِي، وأصبح وراء ظهر بوتين!
زار الرئيس الأميركي، بايدن، في 20 فبراير/ شباط الجاري، كييف، وجدّد منها ومن وارسو رفض الحرب الروسية، وأنَّ روسيا ستنهزم هناك. وهذا يعني أن الغرب لا يتبنّى مبادرة السلام الصينية، وأيضا لا توافق عليها روسيا، وهو الأسوأ؛ فهي تتضمّن الاعتراف بأوكرانيا دولة مستقلة من ناحية وحق روسيا بالحفاظ على أمنها القومي، أي حقّها في أوكرانيا محايدة، وليست ضمن حلف الناتو؛ للتذكير. لقد رَفضت الصين من قبل العقوبات على روسيا، ودعت دائما إلى التفاوض لحل مشكلة أوكرانيا بين الغرب وروسيا.
الأمر في غاية الخطورة، سيما أن الأميركان والروس لا "يمزحون" في رفض خروج الحرب عن أوكرانيا
لم تَقبل الولايات المتحدة وكذا حلف الناتو المبادرة الصينية، اهتمت بها ألمانيا فقط، بل وتشكّكت دولٌ أوروبية كثيرة في موقف الصين، واعتبرتها منحازة لروسيا، وتقدّم الدعم العسكري لها، والقصة لا تُختَصر بحادثة المنطاد والتجسّس؛ فالصين حليفة روسيا في حربها، يقولون، رغم رفض الصين هذه التصريحات، وتأكيدها على لعب دورٍ محايد، ومؤيد للتفاوض وللسلام وإيقاف الحرب. وقد تجاوزت المواقف الأميركية والغربية بعامة من جهة، وروسيا من جهة أخرى، الرؤية الصينية، التي تستند إلى حق الدول في تقرير مصيرها، والحفاظ على سيادتها. وأصبحت هذه الأفكار متخلفة عن وقائع الحرب والمواقف المعلنة عن أوكرانيا من الطرفين. وهذا يعني أن العام الثاني للحرب قد دخل، وبقوّة أيضا. ولهذا أكّدت الولايات المتحدة على مدّ أوكرانيا بأسلحة جديدة، وراحت روسيا تكثّف هجماتها من جديد، للدفاع عن الأقاليم التي ضمّتها رسميّا إليها في 2022، ولا تتورّع عن الاستمرار في هجمات تطاول العاصمة كييف ذاتها.
تتخوّف تحليلاتٌ من امتداد الحرب إلى خارج أوكرانيا، وخطوة بوتين بالانسحاب من المعاهدة، أعلاه، مؤشّر سلبي نحو ذلك، وليست تخوّفات دول أوروبا الشرقية، سيما بولندا وجمهوريات البلطيق، بلا سبب، لا سيما أن إمداد السلاح الغربي يصل عبر بولندا خصوصا، وروسيا تعتبرها ضمن مجالها الأمني، وفي حال وصلت الطائرات إف 16 الأميركية إلى أوكرانيا، فإن هذا سيعطي الكرملين سبّبا لذلك التمدّد. وهنا يصبح الأمر في غاية الخطورة، سيما أن الأميركان والروس لا "يمزحون" في رفض خروج الحرب عن أوكرانيا، وروسيا لن تقبل بوصول أسلحة أكثر تطوّرا، وأن الغرب لن يقبل بهزيمة أوكرانيا، كما أكّد في مؤتمر ميونخ بشكل صارم.
زيارة بايدن أوكرانيا مؤشّر على استمرار الحرب؛ فهي تأتي على أبواب العام الثاني للحرب، والدعم المستمر لأوكرانيا
المبادرة الصينية، في هذا التحليل هذا، متخلّفة عن مستجدات الوضع الأوكراني، والمواقف الدولية إذا. وبالتالي، لن تُكتب لها الحياة؛ هي متفقة مع توجّه الصين إلى استعادة تايوان، وعدم رغبتها في استعداء الغرب ضدها كذلك. إذا الحرب مستمرّة للعام التالي، وهناك تشكيك بالمواقف الصينية. والاستنتاج هنا أن العالم بأكمله في لحظةٍ خطرةٍ، وإمكانية الحرب العالمية الثالثة ليست كلاما في الهواء. مراقبة حركة الدبلوماسية الأميركية والروسية في العالم، ولا سيما في منطقتنا، تؤشّر إلى أن هناك اصطفافات إلى هذا الجانب أو ذاك؛ فإيران تصطفّ مع روسيا، والخليج يحاول البقاء محايدا ما أمكن، ويتعامل مع روسيا وأميركا معا، وحذرا تجاه أيّة مواقف حساسة لكلتيهما، ومقيما علاقاتٍ أكثر تطوّرا مع الصين؛ وتركيا تنفتح نحو دول المنطقة، وموقفها يشبه موقف دول الخليج تجاه الدولتين.
زيارة بايدن أوكرانيا مؤشّر على استمرار الحرب؛ فهي تأتي على أبواب العام الثاني للحرب، والدعم المستمر لأوكرانيا. وقد أحدثت تطورات الحرب الروسية أزمات عالمية كبرى تخصّ الطاقة والغذاء وكوارث التغيّر المناخي، وكذلك مشكلات اقتصادية كبيرة في أوروبا، وأدّت إلى تأجيل المفاوضات للأزمات السياسية العالمية، كالأحوال في ليبيا واليمن وسورية، وهناك أزمات الفقر والجوع في أفريقيا خصوصا. إن تجذّر الخلاف والقطيعة بين روسيا وأميركا، إضافة إلى الحرب في أوكرانيا، يعني عدم وجود أيّة حلول للمشكلات السابقة، وتأزيم للعلاقات الدولية بأكملها أكثر فأكثر.
ليس في جعبة الغرب أيّة مبادرات لإنهاء الحرب، وبغض النظر عن جريمة روسيا في غزو أوكرانيا، وبوتين لن ينسحب منها، وهنا جذر المشكلة المستمرّة
روسيا ساعية إلى نظام دولي متعدّد الأقطاب، والصين أيضا ودول كثيرة، تبتغي الأمر ذاته، وبغض النظر عن خطأ الحرب الروسية والعقوبات التي فُرِضت عليها والمشكلات التي بدأت تعانيها داخليا، فإن أميركا والغرب ليسا قادريْن على إنهاء الحرب من دون التدخل المباشر فيها، وهذا يعني حربا عالميّة بالضرورة. ولهذا هناك خطورة في انسحاب روسيا من معاهدة "نيو ستارت". تمسّك أميركا وأوروبا باستقلال أوكرانيا، وعدم طرح مبادرات لإيجاد تسوية تنقذ كلا من روسيا وأوكرانيا، يعني أن الحرب مستمرّة، وروسيا ستستخدم فيها كل أنواع الأسلحة مستقبلاً.
هناك فقرة هامة في خطاب بوتين، أن هجومه على أوكرانيا يُدرَس خطوة خطوة وبعناية منهجية. ربما تعني أنّه منفتحٌ تجاه أيّة مبادرات "خطوات، اقتراحات" للحل في أوكرانيا. المشكلة الآن أنّه ليس في جعبة الغرب أيّة مبادرات لإنهاء الحرب، وبغض النظر عن جريمة روسيا في غزو أوكرانيا، وبوتين لن ينسحب منها، وهنا جذر المشكلة المستمرّة.
حاليّا، تتأزّم العلاقات الدوليّة، سيما مع تَصلّب مواقف الغرب ضد الصين، ولا سيما تجاه تايوان، أو ادّعاء أنّها متحالفة مع روسيا أو ضد كوريا الشمالية أو إيران مثلا. إذن، العالم يتعسكر في تحالفاتٍ متصادمة، وبانتظار الحدث الذي سيتسبّب بحربٍ عالميةٍ ثالثة؛ وبالتالي، لا خيار آخر لإيقاف فوهة الجحيم من دون العودة إلى التفاوض، فهل يستجيب العالم لنداء الصين للسلام، بغض النظر عن بنود المبادرة الصينية، ويبدأ التفاوض، وبالتالي، هل يصح القول إن الموقف العالمي الراهن هو بين أمرين: إمّا التفاوض والانتقال نحو نظامٍ عالميٍّ جديد، ومن دون تجاهل مصالح كل من روسيا وأوكرانيا أو الحرب العالمية الثالثة؟