خريف الغضب الأوروبي
وصف الملياردير الأميركي، إيلون ماسك، في مقابلة تلفزيونية معه، الاقتصاد، بأنّه ليس الأموال المتداولة، وإنّما تبادل السلع والخامات والخدمات. وربما يؤكّد الوضع العالمي هذا التعريف البسيط، فهناك أموال (بنكنوت) وفيرة، لكن لا توجد مقابلها سلع متوفرة، وهو ما يؤدّي إلى التضخم، وتدني القيمة الشرائية للعملات.
كانت جائحة كورونا بداية الأزمة، أدّى الإغلاق إلى مشكلات في سلاسل الإمدادات، وما إن بدأ العالم في التعافي من آثار الجائحة واستبشر خيراً، حتى بدأت روسيا عملياتها العسكرية في أوكرانيا، ليدخل العالم في دائرةٍ جهنميةٍ مغلقة، وأزمة اقتصادية طاحنة بسبب القرارات السياسية غير المدروسة التي واجه بها الغرب الاجتياح الروسي، وفرض عقوبات غير مسبوقة عليها، وهو ما أدّى إلى أزمة في الطاقة والخامات والحبوب، من تداعياتها تضخم وغلاء معيشة وتأثر الصناعة في القارّة العجوز وحالة من الركود والتراجع الاقتصادي على مستوى العالم.
تظاهر، قبل أيام، أكثر من 70 ألف شخص في العاصمة التشيكية براغ، وأعربوا عن مخاوفهم من ارتفاع تكلفة فواتير الطاقة والكهرباء. لم تكن أول تظاهرة في أوروبا ضد التضخّم وغلاء المعيشة، سبقتها تظاهرات في بريطانيا وألمانيا، لكنّ تظاهرة براغ كانت الأكبر، وهي أول تظاهرة شعبية أوروبية تندّد بسياسات الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وطالب منظّموها بحياد بلدهم عسكرياً وإبرام عقود مباشرة مع مورّدي الغاز، ومنهم روسيا. خرج المتظاهرون على أمل إيجاد حلّ لمشكلة أسعار الطاقة التي سيعانون منها في فصل الشتاء.
وصل التضخّم إلى أرقام قياسية، غلاء المعيشة وفواتير الطاقة (الكهرباء والغاز) تلهب ظهور الأوروبيين
كانت التشيك إحدى أكبر الدول الداعمة لأوكرانيا ضد الاجتياح الروسي، وقدّمت الملاذ الآمن لأكثر من 40 ألف أوكراني على أرضها، بالإضافة إلى الدعم العسكري والمساعدات الإنسانية لحكومة كييف، كان هذا هو الموقف الرسمي والشعبي. وبعد سبعة شهور من بدء الحرب، لم تعد آثارها قاصرةً على مواطني أوكرانيا، امتدّت إلى جيب كلّ مواطن أوروبي، فالتضخّم وصل إلى أرقام قياسية، غلاء المعيشة وفواتير الطاقة (الكهرباء والغاز) تلهب ظهور الأوروبيين، وهو ما دعا الرئيس الفرنسي، ماكرون، إلى مصارحة شعبه بأن "عهد الرفاهية انتهى ونعيش الآن نهاية زمن الوفرة". وطالب الفرنسيين بالاستعداد والتضحية بسبب الأزمات المتتالية فى الطاقة والغذاء والجفاف، وبأنّ عليهم أن يدفعوا ثمن الحرية!
ورغم أنّ رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، ليز تراس، تعهدت، في أول خطاب لها بعد توليها منصبها، بتقديم خطة جريئة تساعد بلادها على اجتياز المصاعب الاقتصادية التي وصفتها بالعاصفة، إلا أنها لم تنس التعهد بدعم الحرية والديمقراطية في العالم، فهي تسير على نهج سلفها بوريس جونسون ودعمه أوكرانيا. ولكن بمرور الوقت، ودخول فصل الشتاء، قد تواجه تحدّيا في إقناع البريطانيين بتحمّل فاتورة الدفاع عن أوكرانيا. وهناك بالفعل حركة "لا تدفع" فى المملكة المتحدة، بدأت بعدد محدود من الناشطين والمتطوعين في يونيو/ حزيران الماضي، يزداد عددهم يوما بعد يوم، هدفها جمع مليون تعهد من المواطنين بالتوقف عن دفع فواتير الطاقة التي ستتضاعف بداية من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، للضغط على شركات الطاقة لتخفيض أسعارها، فقد حققت تلك الشركات أرباحا طائلة بسبب القفزة في أسعار الوقود على حساب المواطن البسيط. وتستلهم الحركة البريطانية موقفها من حركة السترات الصفراء في فرنسا التي نجحت في عام 2018 في إيقاف ضريبة قرّرتها الحكومة على الوقود. ليس للحركتين ظهير سياسي أو حزبي، إلا أنهما جزء من سياق عام غاضب من أداء الحكومات، يمكن أن يتطوّر إلى حالةٍ أقرب إلى عصيان مدني يؤدّي إلى اضطرابات أوسع.
تزداد المخاوف من أن يكون الأمر بداية خريف أوروبي على غرار الربيع العربي، وهو ما سينهك اقتصاديات الدول الغربية الراكدة
اعتاد المواطن الأوروبي منذ عقود على الوفرة والرفاهية، ما يحدُث الآن يعدّ انقلابا على حياته الآمنة، وهذا سيؤدّي إلى موجاتٍ من السخط والغضب والتظاهرات، والتظاهرات معدية كما يؤكّد علماء الاجتماع، وستنتقل بين دول الجوار، ومن المتوقع أن تشهد عواصم أوروبية تظاهرات احتجاجية أكبر عددا وأكثر عنفاً من تظاهرات براغ.
تكافح معظم الدول مع ارتفاع أسعار الطاقة، لكنّ أوروبا تتعرّض لضغوط أشد قسوة، خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء، فعليها عبء توفير الطاقة لمواطنيها وأيضاً دعم أوكرانيا، وهو ما جعل القادة الأوروبيين يضعون خططاً عاجلة لخفض استهلاك الطاقة وترشيده، وإجراءات طوارئ للتخفيف من الأعباء الأليمة التي سيتحمّلها المواطنون في الشتاء، لكنّ ذلك كله سيكون محدود التأثير.
مع استمرار أزمة الطاقة واقتراب فصل الشتاء، سيشعر الأوروبي بالمعاناة، وسيحمّل قادته الذنب في ما يحدُث له، بسبب القرارات السياسية العقابية ضد روسيا والانخراط في الحرب الأوكرانية. وسيؤدّي ذلك إلى أزمات سياسية داخلية، وستزداد حدّة الخلافات بين بلدان الاتحاد الأوروبي بشأن تقاسم الغاز، وستنقسم الآراء بشأن المشاركة في دعم أوكرانيا ومقاطعة الغاز الروسي. وتزداد المخاوف من أن يكون الأمر بداية خريف أوروبي على غرار الربيع العربي، وهو ما سينهك اقتصاديات الدول الغربية الراكدة، وسيلقي بظلاله على التحالف الأوروبي/ الأميركي، وربما يكون من آثاره التعجيل بسقوط النظام العالمي الحالي، وكذلك النظام الاقتصادي الذي هيمنت عليه المؤسّسات المالية الموالية لأميركا، وتراجع الدولار في المعاملات الدولية، كما حدث مع الأنظمة العربية التي سقطت بسبب الربيع العربي.
القادة الأوروبيون أمام وضع صعب للغاية، فإما الذهاب إلى الهاوية والفوضى أو وضع خطة عاجلة لإنهاء الأزمة الأوكرانية التي أصبحت تداعياتها أسوأ من توقعاتهم، وتقديم تنازلاتٍ ستؤدّي أيضاً إلى تغيراتٍ في موازين القوى .. كلّ الدروب تؤدّي إلى سقوط النظام العالمي الحالي.