خريطة طريق لتعميق الشراكة التركية الروسية
كانت القمة التي جمعت الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، في مدينة سوتشي الروسية يوم 5 أغسطس/ آب الجاري، مثمرة بما يكفي للخروج بخلاصةٍ مفادها أن الشراكة الوثيقة التي هندسها الزعيمان منذ توليهما السلطة ما زالت تعمل بفعالية، رغم العواصف المحيطة بها. تُقدم هذه الشراكة نموذجاً استثنائياً في إدارة علاقات دولتين لديهما أهداف جيوسياسية متناقضة في معظم المناطق التي يتنافسان فيها على النفوذ، وتحويل هذا التناقض إلى تعاون تنافسي مربح لكليهما. هناك ميزة تتمتع بها هذه الشراكة، هي قدرتها على الإنتاج بشكل أكبر كلّما ازداد حجم التحديات التي تواجهها. على سبيل المثال، كانت الشراكة التركية الروسية التي برزت في العقد الأول من القرن الحالي تتقدّم ببطء شديد، لكنّها بدأت تُحقق قفزات كبيرة بعد ذلك، رغم ظهور التوترات الجيوسياسية المحيطة بها بعد مطلع العقد الثاني. وبينما كان المشروع الكبير الوحيد الذي أنشأه البلدان في العقد الأول يقتصر على بناء روسيا محطة للطاقة النووية في تركيا في 2010، فإنّ العقد الثاني شهد الدخول في مشاريع كبيرة أخرى، رغم انخراطهما في الحرب السورية.
في عام 2015، وصلت الشراكة إلى منعطف حاسم بعد اندلاع أزمة حادّة بين البلدين على خلفية إسقاط تركيا المقاتلة الروسية على الحدود مع سورية. لكنّ البلدين أطلقا، بعد أشهر قليلة من إعادة إصلاح العلاقات، مشروع بناء خط أنابيب الغاز التركي في 2016، ثم اتفقا على توريد أنظمة الدفاع الجوي الصاروخية الروسية إس 400 إلى تركيا في العام التالي. وفي العام نفسه، دخلت أنقرة في منصة أستانة السورية إلى جانب روسيا وإيران. رغم أن الشراكة التركية الروسية التي برزت في سورية منذ تلك الفترة لم تكن مستقرة تماماً، إلّا أن أنقرة وموسكو طوّرتاها بعد ذلك إلى تنسيق أوسع في قضايا إقليمية أخرى. في عام 2020، أشرف البلدان على اتفاق لإنهاء الحرب بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم قره باغ، واتفقا أيضاً على رعاية وقف لإطلاق النار بين حلفائهما في ليبيا. في معظم هذه القضايا، وقفت تركيا وروسيا على طرفي نقيض. عادة ما تُشكل مثل هذه الاضطرابات اختباراً لمدى قوة الشراكة بين بلدين. في الحالة التركية الروسية، أثبتت الشراكة أنّها قوية بالفعل.
منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، سعت تركيا إلى الاستفادة من مكانتها الجيوسياسية المهمّة لإصلاح علاقاتها بالدول الغربية
عندما أمرّ بوتين قواته بالهجوم على أوكرانيا في فبراير/ شباط الماضي، بدت الشراكة التركية الروسية على المحكّ بفعل معارضة أنقرة الهجوم وتزويدها كييف بطائرات بيرقدار المسيّرة. مع ذلك، ساعدها النهج المتوازن الذي تبنّته في الحرب على تحويل نفسها إلى وسيط موثوق لدى الطرفين. في بدايات الصراع، سعت أنقرة إلى التوسّط من أجل إبرام تسوية سياسية بين روسيا وأوكرانيا، لكنّها أخفقت في ذلك، بيد أنّ جهودها أثمرت، أخيراً، رعاية اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية. لدى أردوغان وبوتين أسباب وجيهة للحفاظ على علاقة عمل جيّدة. بالنسبة لبوتين، تتمثل أولويته في إبقاء تركيا في المنتصف في صراعه مع الغرب والاستفادة من موقفها لتخفيف ضغط العقوبات الغربية عليه. لم تنخرط أنقرة في العقوبات، كما أبقت أبوابها مفتوحة أمام الشركات الروسية، وسمحت للمواطنين الروس ورجال الأعمال الوافدين إليها بضخ أموالهم في قطاعها المصرفي. علاوة على ذلك، فإنّها ما زالت مشترياً مهماً للغاز الروسي، إذ تستورد ما يقرب من نصف احتياجاتها من الغاز من موسكو.
وبالنسبة لأردوغان، فإنّ الحفاظ على الشراكة مع بوتين ساعده في عزل تركيا عن أزمة الطاقة الحالية التي يُعانيها الغرب كما ساعده في منح مشروعية لدور الحياد في الصراع الروسي الغربي وتقوية موقف أنقرة في علاقاتها مع الغرب. منذ اندلاع الحرب، سعت تركيا إلى الاستفادة من مكانتها الجيوسياسية المهمّة لإصلاح علاقاتها بالدول الغربية. يُلاحظ منذ تلك الفترة أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خففا من نبرتهما العدائية تجاه أردوغان، سعياً منهما إلى استمالته إلى جانبهما. عندما تجنّبت أنقرة الانخراط في العقوبات على روسيا ودعت الغرب إلى إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع موسكو وعارضت مشروع ضم فنلندا والسويد لحلف الناتو، بدت سياسة التوازن التركي تميل لصالح روسيا. لم تُفلح وساطة تركيا في تحقيق خرق في جدار التسوية السياسية للصراع، ما زاد من شكوك الغرب في سياسة أردوغان إزاء الصراع. لكنّ صفقة الحبوب أعادت الاعتبار لأهمية نهج التوازن التركي.
حقيقة أنّ المصالح التركية الروسية متشابكة، وتتجاوز سورية، جعلت بوتين أكثر إنصاتاً لهواجس أردوغان
رغم فوائد الشراكة التركية الروسية لكلا البلدين، إلّا أنهما ما زالا على خلاف بشأن رغبة تركيا في شن عملية عسكرية جديدة ضد وحدات حماية الشعب الكردية في شمال سورية. يكتسب اتفاق أردوغان وبوتين على التعاون في مكافحة الإرهاب أهمية بهذا الخصوص. في قمّة طهران الثلاثية، أبدى بوتين ورئيسي معارضة للخطط التركية. في تجربة الشراكة التركية الروسية في سورية، أثبت البلدان قدرتهما على إدارة خلافاتها وإنتاج تسويات عديدة بمعزل عن طهران في بعض الأحيان. حقيقة أنّ المصالح التركية الروسية متشابكة، وتتجاوز سورية، جعلت بوتين أكثر إنصاتاً لهواجس أردوغان. من خلال تكرار موسكو إقرارها بالمصالح الأمنية التركية، وعدم منح أردوغان موافقة واضحة على العملية المحتملة، يسعى بوتين إلى إبرام تسوية مرضية لجميع الأطراف، مع الحفاظ على ميزان القوى العسكري القائم منذ ثلاث سنوات. أحد الخيارات المرجّحة إعادة تعويم اتفاق سوتشي لعام 2019، بحيث يجرى إخراج الوحدات الكردية من منطقتي تل رفعت ومنبج، من دون دخول القوات التركية إليهما. سيفتح مثل هذا الاتفاق المحتمل الباب أمام إمكانية التنسيق الأمني بين أنقرة ودمشق في هذه المسألة.
في حال ترجمة الجانب الاقتصادي من إعلان سوتشي على أرض الواقع، سترتقي العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين إلى مستوى جديد
على عكس قضية الوحدات الكردية التي لم تخرج بنتائج واضحة في قمة سوتشي، كان التوافق التركي الروسي على تعميق التعاون الاقتصادي النتيجة الأكثر أهمية ووضوحاً. يُساعد هذا الاتفاق روسيا على نحو أكبر في الاستفادة من مزايا تركيا للتخفيف من وطأة العقوبات الغربية عليها، بينما يُساعد أنقرة في الاستفادة الاقتصادية بشكل أكبر من حاجة موسكو لها. بموجب هذا الاتفاق، ستشرع تركيا في دفع ثمن الغاز الروسي بالروبل، وتطوير العلاقات المصرفية والتسويات بين البلدين بالعملة المحلية. ستسمح هذه الخطوة لروسيا بتجنب سوق النفط العالمية المقومة بالدولار، مع تمكين تركيا من الحد من الأضرار التي لحقت باحتياطاتها المتناقصة من العملات الأجنبية، من خلال دفع ثمن الطاقة بالليرة التركية. في حال ترجمة الجانب الاقتصادي من إعلان سوتشي على أرض الواقع، سترتقي العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين إلى مستوى جديد، وسينعكس ذلك إيجاباً على شراكة البلدين في القضايا الخارجية.
لوحظ أنّ الحديث عن التعاون الدفاعي غاب عن البيان المشترك لإعلان سوتشي، لكنّه يكتسب أهمية كبيرة في الشراكة. في الوقت الحالي، تُماطل واشنطن في تمرير صفقة بيع تركيا مقاتلات F16 وقد أقر الكونغرس الأميركي، أخيراً، قانوناً يُعقد هذه المسألة، ويرهن تمرير الصفقة بتغيير موقف أنقرة في العلاقة مع اليونان. قبيل قمة سوتشي، تحدّث وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، أنّ لدى بلاده خيارات عديدة يُمكن أن تلجأ إليها في حال رفضت واشنطن بيعها المقاتلات المطلوبة. يُدرك أردوغان أنّ إدارة بايدن قد لا تمنحه هذه المقاتلات، ويبدو أنه، عندما طرح هذه الصفقة، أراد منح مشروعية للخطوات المحتملة التي يرغب باتخاذها مع موسكو بخصوص التعاون الدفاعي. من المرجّح أن يطرأ تقدّم على هذا الصعيد في حال نجحت تركيا وروسيا في ترجمة اتفاق سوتشي، وتعزيز قاعدة الثقة بينهما. لقد وضعت قمة سوتشي بالفعل خريطة طريق استراتيجية لتعميق الشراكة بين البلدين أكثر من أي وقت مضى.