خربة الليث حجو واليسار السوري
يعدُّ مسلسل "الخربة" من إخراج الليث حجّو وسيناريو ممدوح حمادة، من أبرز المسلسلات التي عُرضت خلال العام 2011، وانصب نقده لا على القوى السياسية الموجودة في سورية، بل على مجمل النظام الذي حوَّل سورية، بتسلّط استبداده وقمعه، ورتابة سياسته، وسطحية قواه السياسية وسكونيتها، من دولة إلى خربة، والخِرْبَةُ هي "الموضع الخرب"... وقد طاول المسلسل في نقده الشيوعيين والبعثيين، فحزب البعث هو الحاكم الفعلي والشيوعي حليفه المعني، كحزب يساري، بالتغيير وبناء دولة حديثة. يصوِّر المسلسل نضال جمهور حزب البعث مقتصراً على التصفيق للمسؤول الأعلى، والبحث عن منافع فردية والسعي إلى الثراء...
يذكر ممدوح حمادة، في واحد من لقاءاته، أنّ سيناريو "الخربة" استغرق خمس سنوات لإنجازه. ويبدو أنّه أضاف عليه ما يرمز إلى الأحداث الأولى من عام 2011، إذ يذكّر المسلسل بزيارة وجهاء درعا إلى رئيس فرع الأمن السياسي في درعا، عاطف نجيب، وجوابه المهين لهم... وتناول المسلسل شعارات الحزب الشيوعي، وجمود لغته التي تعود إلى زمن الحرب الباردة، فيعرِّف مسؤوله في قرية الخربة الإمبريالية بأنّها "أحقر من أحقر أيّ شيء في الوجود..." وهو في الحقيقة يجهل المعنى الدقيق لذلك المصطلح، ولا يعرف غير أنّها عدوٌّ لدود لبلاده. وعلى ذلك، يتخذ موقفاً منها، ويناضل ضدها. والقرية، كما سلف، رمْزٌ لما آلت إليه الدولة السورية. ويمرُّ المسلسل على ضحالة جماهير الحزب الشيوعي، وتفرّعاته، ومسايرته زعامات أهل القرية التقليديين الذين يتحكّمون بمصيرهم. وليس ذلك فحسب، بل امتثل الشاب الذي انتسب إلى الحزب لأجل صبية أحبها لرأي الحزب الذي وقفت قيادته ضد زواجهما، لئلا يتسبب زواج الحبيبين بمشكلات بين العائلتين بحسب إبلاغ زعيمي القرية التقليديين قيادة الحزب، فالشاب من عائلة "بو مالحة" والفتاة من عائلة "بو قعقور" والزعيمان يريدان بقاء هذه القسمة أو الفرقة.
لم يكتفِ الحزب الشيوعي في سورية بموقفه إلى جانب النظام، بل أخذ في التنمر مع الحزب الشيوعي اللبناني، على مواقف ما يمكن تسميته تمرُّد براعم يسار جديد
وهكذا، يقف الجمود العقائدي في مواجهة حركة الحياة ذاتها، فيكون حجر عثرة أمام نموّها وتقدّمها، بل أمام أجمل ما فيها وأنبل. وهكذا الفن الذي يتفاعل معه الجمهور راق، ويعكس، في تعبيره، حقيقة الواقع الحياتي للمجتمع الذي ينشأ فيه. وقد عكس مسلسل "الخربة" الواقع السوري المتردّي قبل الثورة السورية. من هنا، أود الإشارة إلى أنّ الحزب الشيوعي السوري الرسمي، بأقسامه كافة، وقف ضد الثورة، ولا أحد يعرف سبب ذلك الموقف الذي أدار ظهره للسوريين، حين انفجروا فجأة نتيجة تراكمات طويلة. وكان يكفي الحزب أن يسأل نفسه سؤالاً واحداً: هل الموقف الذي اتخذه النظام نابع من روح وطنية أم من حرصه على كرسي الحكم؟ وقد تفاقم الفساد ولامس حتى نخاع الدولة، وكان سبباً رئيساً لتخلف التنمية بشقّيها، الإنتاجي والخدمي، إضافة إلى انتشار البطالة وهجرة الشباب إلى دول الخليج وبلدان أخرى، لتوفير ما يمكن أن يعينهم على حياتهم المقبلة... وإذا كانت تلك الحال قبل الثورة، فما حصل بعدها كان أقسى وأشدّ، إذ جنَّ جنون النظام، فأخذ في ارتكاب الجرائم ضد الشعب، ما فضح طبيعته المعادية للحرية والتقدّم الاجتماعي، وتعرّيه من كلّ غطاء حاول التستّر به. وفي الوقت نفسه، تعرّي طبيعة ذلك اليسار الرسمي أو التقليدي الذي أفلس كلياً، ولم يبقَ لديه غير الشعارات الزائفة التي لا تعبّر عن واقع الحال، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة، وصيرورة روسيا إلى إمبرياليةٍ هي أسوأ من غيرها، فحكامها الحاليون هم من أسقطوا الاتحاد السوفييتي بالبيروقراطية التي كانوا يمارسونها، ثم نهبوا دولتهم التي كانت اشتراكية، لكنّ أسطوانة: "الإمبريالية أحقر من أحقر أيّ شيء في الدنيا" آخذةٌ على لسانهم، بدلاً من فلسفة الديالكتيك القائلة إنّ كلّ شيء في الحياة إلى تبدل وتغيُّر وتجدّد، وإنّه كيسار معني بملاقاة ذلك التبدّل، ومساعدته على تلمس طريقه الجديد...
نحن أمام مرحلةٍ انتقاليةٍ جديدة، تتطلب ملاقاتها فكراً وسياسة، ونهجاً وطنياً ديمقراطياً يتوافق مع روح الحضارة، وبناء الدولة المعاصرة المزدهرة بالتنمية الدائمة
لم يكتفِ الحزب الشيوعي بموقفه إلى جانب النظام، بل أخذ في التنمر مع الحزب الشيوعي اللبناني، على مواقف ما يمكن تسميته تمرُّد براعم يسار جديد، يحاول الأخذ بالمحتوى الإنساني العام لليسار، وكما أراده ماركس وطنياً وتنموياً في إطارٍ من الحرية والديمقراطية، بينما ما زال اليسار التقليدي على جموده ولغته القديمة التي نعاها نزار قباني بُعَيْدَ هزيمة 1967 (رحم الله جورج حاوي وفرج الله الحلو اللذين كانا مع حزبيهما اللذين يمثلان شعبيهما قبل أن يكونا مع السوفييت)، فما بالكم اليوم، وروسيا دولة إمبريالية جديدة تحاصص "الإمبرياليات" القديمة. بينما يعدُّها الشيوعيون التقليديون وريثة الاتحاد السوفييتي، وكأنّها تسير على خطاه، ولا تحكمها بيروقراطية/ إمبريالية كانت سبباً لسقوط الاتحاد السوفييتي (بحسب معظم المحللين الاستراتيجيين الروس أنفسهم).
إدانة النظام السوري وتجريمه بما ارتكبه بحق الشعب من اعتقال وسجن وقتل فردي وجماعي مسألة تعلو فوق تسميات اليمين واليسار، فهي مسألة جوهرها المواطنة الفعلية، والنزعة الإنسانية، ناهيكم عن استقواء النظام بالأجنبي، وتدمير وطن عريق، وتهجير أهله بحثاً عن "التجانس" (مواطنون تحت الطلب)، والنتيجة جيوش أجنبية تسرح وتمرح على الأرض السورية، وثروات تنهب في وضح النهار، وفساد غير مسبوق وشعب يتسول المعونات، ورئيس ما زال، بعد عشرين سنة من الحكم، وتحويل البلد إلى خرابٍ كلي، يتمسّك بالترشح، ويجد، مع كلّ أسف، من يقف إلى جانبه ويؤيده، وأولهم روسيا التي بحسب بعضهم "ما زالت على نهج السوفييت" وكأنّهم لا يرون تناغمها مع بنيامين نتنياهو قبل 30 سبتمبر/ أيلول 2015 وبعد ذلك التاريخ المشؤوم (بدء انتشار قوات روسية في سورية).
ثم أنّنا، في منطقتنا العربية، أمام مرحلةٍ انتقاليةٍ جديدة، تتطلب ملاقاتها فكراً وسياسة، ونهجاً وطنياً ديمقراطياً يتوافق مع روح الحضارة، وبناء الدولة المعاصرة المزدهرة بالتنمية الدائمة، المحمية بقوانين تكفل للمواطنين أجمعين الحرية والعدالة والمساواة.