حُرّاس الحلم العربي
تكثُر في المرويات الشفهية التي كان يردّدها آباؤنا وأجدادُنا أن "العرب باعوا فلسطين" إما عجزا أو تخاذلا أو تآمرا، لا فرق فالنتيجة كانت واحدة. وقد استمعت إلى رواية نقلها لي قريب لي إبّان حرب "النكبة"، أن أحد وجوه العرب جاء إلى قريتنا الواقعة في إحدى ضواحي يافا، وجمَع وجهاءَها، وقال لهم، والمعارك على أشدّها بين العرب واليهود المحتلين، إن على أهل القرية أن يغادروها ويأخذوا مفاتيح بيوتهم معهم، وأن يتركوا كل شيءٍ على حاله، لأنهم سيعودون إليها بعد أسبوع. وكانت مغادرة القرية ضرورية كي تتمكّن القوات العربية من مواجهة قوات العدو، وكي لا يشكّل السكان المدنيون حاجزا بين قوات "التحرير" العربية وقوات الاحتلال اليهودية. سمع أهل القرية الكلام وغادروها، وامتد الأسبوع إلى سبعين سنة ويزيد، وُلدت فيها أجيالٌ من أهل القرية وماتت أجيال، والأحفاد وأحفادهم ينتظرون تحقيق الوعد، وإن كفّ بعض منهم عن الانتظار، وتولّى هو عملية تحقيق الوعد بطريقته الخاصة، حتى مع وجود ما يعيق عمله من تناسلات الوعد العربي إياه، الذي تحوّل إلى منظومةٍ مُحكمة عنوانها "تجريم" المقاومة، وسنّ تشريعاتٍ تصفها بأنها محض "إرهاب"، وفتحت السجون والمعتقلات في غير بلد عربي، لاستقبال كل من يعتقد مجرّد اعتقاد أن عليه أن يحقق وعد ذلك الوجيه العربي، سواء بالقوة أو الكلمة، أو حتى بالأغنية والنشيد، بل دار الزمان دورته الأعجوبة، وتحوّل "العدو" في المخيال العربي الرسمي إلى شريكٍ وصديقٍٍ وحليف، وتعين على الأحفاد وأحفادهم ممن بقوا في محطة الانتظار الواقعة في اللامكان، أن يصمتوا أو تملأ أفواههم وأنوفهم بالتراب، وأن يتعايشوا مع مفرداتٍ جديدةٍ اقتحمت الوجدان الجمعي العربي، وحلّت محلّ كلمات أصبحت غريبة، كفلسطين، والتحرير، والقدس، والشرف، والكبرياء، والكرامة، وبقية المفردات الجميلة التي أريد لها أن تُستبدل بقاموس جديد من كلامٍ ملتبسٍ يحمل معاني السلام والأمن والتهدئة والتطبيع والعيش المشترك، وحل النزاعات بالحوار، والشرعية الدولية، والمجتمع الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، ومبادرات الحل السلمي، وقائمة طويلة من التعبيرات التي ليس لها على أرض الواقع من أثر، إلا ما تتركُه النملة التي تسير على صخرة صمّاء في ليلة سوداء!
صارت عملية تحصيل رغيف الخبز أشبه ما تكون باستخلاص لقمةٍ من فم السبع
المهم، يا سادة يا كرام، صار كل حديثٍ بعيدا عن قاموس العرب الجديد، مدعاةً للمساءلة والسجن والسحل والتعذيب، لأن المقاومة صارت إرهابا، والدفاع عن الأرض والعرض عنفا وشغبا، وانتقاد خطايا الكبار إطالة لسان وقدح مقاماتٍ عليا، وتعيّن على الجميع أن يدخلوا "الحظيرة" والانشغال بالتهام "العليقة" إن وجد فيها شيءٌ لالتهامه، وصار أي تفكيرٍ خارج الحظيرة تعكيرا للسلم الأهلي، وتهديدا لأمن الدولة، وأصبح توجيه أي كلامٍ مزعجٍ لـ"دولة" العدو إساءةً للعلاقات مع دولة صديقة أو شقيقة. والألعن من هذا كله صارت عملية تحصيل رغيف الخبز أشبه ما تكون باستخلاص لقمةٍ من فم السبع. وتحقّقت في القوم مقولة سائدة في الصحافة، أن "رئيس التحرير غني والصحيفة فقيرة"، فالمال حكرٌ على رأس الهرم، الذي يعد ثروته بالمليارات، فيما أبناء شعبه يعدّون ما يملكون بالملاليم والفلسات، وأي أحد فكّر أن "يشذّ" عن القطيع صار عليه أن يحسب ألف حسابٍ لما سيلقاه في غرف التحقيق التي أعدّت لكل من "يخون وطنه" ويتآمر عليه، فقط لأنه تجرّأ لسؤالٍ يدور حول كيف ولماذا ومن أين وإلى أين، فقد حرمت الأسئلة، وتطوّع جيش من أصحاب الأفواه الكبيرة ممن يحتلون كامل مساحة الشاشات لتزيين الفاجعة، وتسويق الوهم، والدفاع عن الكذب والتضليل، ومُلئت جيوب هؤلاء بالملايين التي سُلبت من جيوب الفقراء قرشا قرشا، وفلسا فلسا.
أكثر من هذا، رأيتَ الكيانات العربية التي يقال إنها "دول" تتباهى بعقد الاتفاقات "الثنائية" مع العدو، الذي وعد ذلك الوجيه العربي بالانتصار عليه ذات نكبة، ورأينا مشروعاتٍ "مشتركة" بين القاتل وضحاياه، ولقاءاتٍ وتنسيقات أمنية، ومعاهدات وحتى مناورات عسكرية وتدريبات مشتركة، تُرى: إن كان "العدو" الأصلي شريكا في هذه المناورات، فلمن تستعدّ الجيوش والقوات في تدريباتها؟ من هو العدو البديل؟ أهو الشعب والرعيّة مثلا؟ أم هناك عدو سري تجري المناورات والاستعدادات لمنازلته؟
المقاومة صارت إرهاباً، والدفاع عن الأرض والعرض عنفاً وشغباً
لقد تغيّر كل شيء، ولو قيّض لشهداء العرب الذين رووا بدمائهم أرض فلسطين أن يعودوا إلى الحياة، ويروا ما حلّ بالقضية التي ماتوا دفاعا عنها، لربما آثروا أن يعيدوا النظر بما فعلوا، والله أعلم. .. ومع هذا، خرجت من بين الركام أجيال صغيرة السن تمتّعت ببصيرة نافذة، اعتنقت المبادئ نفسها التي قادت الشهداء الأوَل، فلم يُنزلوا الراية من أيديهم، وظلّوا قابضين على جمر الشهادة، حتى مع كل ذلك الخراب والتخريب الذي استهدف تدمير الروح الوطنية العربية، وسحق براعم الحرية والخلاص، ليس من الاحتلال المباشر، بل من كل الاحتلالات "الوطنية" غير المباشرة، ويبدو أن هذه الروح الوثّابة الدليل القاطع على فشل كل الخطط لدفن فلسطين وبيعها فعلا، من القريب والحبيب والنسيب.
صحيحٌ أن هذه الأجيال غير قادرة بعد على حسم المعركة وتحقيق الانتصار المأمول، لكنها تحرُس الحلم العربي، وترعى جذوة الحياة، لتبقى متّقدة حتى لو غطّتها طبقاتٌ من الرماد، حرّاس الحلم العربي هؤلاء باقون ما بقيت الأمة، والرهان والحرب على ديمومة وجود هذا الحلم وحراسه، ليأتي ذلك اليوم الذي يتحقّق وعد ذلك الوجيه العربي، حتى لو امتدّ الأسبوع إلى قرن.
وجود هؤلاء الحرّاس هو الدليل الأبلج على فشل كل ما خطّط له الأقربون والأبعدون لإبادة روح الأمة، وتأبيد تدجينها، وإبقائها في حالة إقامة دائمة في "الحظيرة".