حين تصبح التفاهة ميزةً
من عيوب وسائل التواصل الاجتماعي أنها تُفسح المجال، أمام الجميع، للإفتاء في شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع، في أي مكان في العالم، من دون تهيّبٍ أو احترامٍ لمقتضيات التخصّص.
مناسبة الإتيان على هذا الكلام ما تداولته صفحاتٌ ومواقعُ ومنصاتٌ مغربية من مشاهد لأشخاص ''مؤثرين'' استغلوا حملة التضامن الشعبي مع ضحايا زلزال الحوز، وظهروا وسط هؤلاء في استرزاقٍ رخيصٍ لمعاناتهم وانتهاك صارخ لحُرماتهم وخصوصياتهم. كانت صادمةً تلك المشاهد التي ظهر فيها أصحابها، وهم يشجّعون متابعيهم على القدوم إلى القرى والمداشر المنكوبة للزواج بقاصراتٍ من الضحايا، أو التكفّل العشوائي بأطفالٍ قضت أُسرهُم في الزلزال. ولم يخجل بعضهم من التقاط صورٍ للمنكوبين من نساء وأطفال وشيوخ في أثناء تقديم المساعدات لهم في مشاهد إنسانية زائفة، أو أخذ صور تذكارية بين ركام البيوت المدمّرة، وكأنهم يأخذونها على أحد جسور باريس، أو ترويجِ أخبارٍ مغلوطة عن حدوث زلازل أخرى في بعض المناطق، من دون اكتراثٍ لتأثير مثل هذه الأخبار على الرأي العام المحلي والوطني.
أثارت هذه المشاهد استهجاناً وغضباً كبيرين، خصوصاً أنّ البلاد لا تزال تحت هوْل الصدمة التي خلفها الزلزال. والمتدخّلون، على اختلاف مواقعهم، لا يزالون يسابقون الزمن من أجل حصر تداعياته على إقليم الحوز. كما أن من شأن هذه المشاهد أن تجعل المنكوبين، خصوصاً النساء والأطفال، صيداً سهلاً أمام شبكات الاتّجار بالبشر التي عادة ما تنشط في مثل هذه الظروف.
أهان هؤلاء "المؤثرون" المنكوبين، وركبوا على الفاجعة التي حلّت بهم، فيما كان في وسعهم أن يكونوا حلقة مضيئة في تعزيز روح التضامن معهم، والتخفيف عنهم والمساعدة في تأهيلهم نفسيا واجتماعيا. وبذلك لم تُسئ سلوكاتهم فقط إلى الضحايا، بل أساءت أيضا إلى القيم التي واكبت حملة التضامن الشعبي مع الإقليم المنكوب.
أسباب كثيرة لصعود هؤلاء ''المؤثّرين'' واحتلالهم موقعاً متقدّماً في صناعة التفاهة، أبرزها تردّي المنظومة التربوية، وانسحاب المثقفين من الشأن العام، وبؤس الإعلام العمومي، وتراجع تأثير مؤسّسات التنشئة والوساطة الاجتماعية، واكتساح وسائل التواصل الاجتماعي مختلف مناحي الحياة ومجالاتها، هذا من دون السهو عن تأثير العولمة على منظومة القيم. ذلك كله سمح بصناعة ''قادة'' جدُد للرأي العام، يشتركون في المستوى التعليمي المتدنّي والجرأة على الخوض والإفتاء في كل ما يمكن أن يخطر على البال، وجشعهم لتحقيق نسب متابعة ومشاهدة مرتفعة تسمح لهم بالانتشار وجني الربح المادي السريع، ويختلفون في ما يذيعونه من محتوياتٍ تكرّس الجهل والتفاهة والتسيُّب، وتروج الكراهية والتمييز، وتُساهم في تشكيل نظرة سلبية وتحقيرية، في أوساط المراهقين والشباب، إزاء كل ما له صلة بالتعليم والثقافة والوعي والكفاءة. ولعل ما يفاقم هذه الظاهرة أن صحافيين ومواقع إلكترونية استضافوا هؤلاء ''المؤثرين'' في حوارات ''حصرية'' (نعم حصرية!)، يُبدون فيها آراءهم بغير قليل من الاستفاضة (والوقاحة أيضاً!) في هذا الشأن أو ذاك. وقد كان مُحبطاً أن نرى محسوبين على الإعلام المغربي متحلقين حول بعض هؤلاء ''المؤثّرين'' وسط الخراب الذي خلفه الزلزال، في مشاهد أقلُّ ما يمكن أن يقال عنها إنها سوريالية.
قد يقول قائل إن من حقّ أي أحد أن يذيع أو ينشر ما يروق له، أو يراه مناسباً في وسائل التواصل الاجتماعي، من منطلق أن ذلك يندرج ضمن حرية التعبير، فضلاً عن أنّ هذه الوسائل جاءت لتكون بديلاً عن الإعلام التقليدي الذي تحتكره السلطة بمختلف تبدّياتها. وعلى ما في هذا الكلام من بعض الوجاهة، إلا أن ترك الحبل على الغارب يخلط الأوراق، ويُحدث حالة إرباك وتشوش عامة، ولا سيما في المجتمعات التي تعيش مخاضاً انتقالياً على غير صعيد. ويزداد الأمر خطورة خلال الكوارث الطبيعية وما تخلفه من ارتجاجٍ نفسي على الأفراد والجماعات.
في الختام، عسى أن يكون ما أعقب فاجعة الحوز من تسيُّب على مواقع التواصل الاجتماعي سبباً في وضع حد لكل الممارسات التي استغلّت مأساة الضحايا وانتهكت كرامتهم.