حياة روسّو في معادلة طه عبد الرحمن
لقد شكّلت عقيدة ردّة الفعل المضطربة في حياة جان جاك روسّو بصمةً لا بد من فهمها لتجريد فلسفته علمياً، فكانت هناك ثلاثية أزموية تبرُز في قلمه وانفعالاته. أولها تأثير معاناته الشخصية ونبذ المجتمع الطبقي المنافق والفاسد له كما يصفه، في طفولته وشبابه. ثم حرمانه من مساحة الشراكة والتدافع الفكري، وسيطرة النظام السياسي الديني على الرواق الأكاديمي، والحياة الاجتماعية. وثالثها ربط أهلية التشريع بالتفويض الديني الكنسي الذي كان مهيمناً على حياة الأفراد، ودَعم سلطة المستبدّ المشرّع، وهي سمة اصطدم بها فلاسفة ذلك التنوير دفعهم إلى اعتبار الروح الدينية مضادّة لضرورات التسامح الفردي والمجتمعي.
ومع هذه الأزمة في غياب التسامح الديني، كانت هناك أزمة لاعقلانية المسيحية، وهما قاعدتان اعتمدهما طه عبد الرحمن، وقدّم شرحاً مكثفاً لما أورده في كتبه عنهما في محاضرته في تونس في القصر الرئاسي، ضمن موسم حوارات قرطاج عام 2013، خلال مساحة التعبير الحر بعد ثورة تونس. وشرَح عبد الرحمن كيف تحوّلت هذه الثنائية إلى أساس هيمن على الانطلاقة الأولى في بعث أوروبا الفلسفي الجديد، وهذا صحيح في إسقاطه العام، وهو ما جعل البعد الآخر في فلاسفة الأخلاق الغربيين، ذوي النزعة اللاهوتية المسيحية، يُحاول الموازنة بمنظومة أخلاق تُهذّب الدين المسيحي، كانت تبرُز في رسالة كانط الجوابية للقسّ المسيحي (ما هو التنوير) ورسالة جون لوك في التسامح، غير أن لوك ذاته يسقُط سقوطاً مدويّاً حين يُنظر إلى تعريف الإنسان لديه، فهو أحد تجّار العبيد الكبار في المستعمرات الأميركية، فأين منظومته الأخلاقية في التسامح من الإنسان الآخر.
ظلت قاعدة النهضة والتنوير في تحقيق تقدّم أوروبا المادي (الإبادي)، من دون أي اعتراف بحقوق عالم الجنوب
ولكن هذا المنحى، أي التصريح أو الممارسة بنفي الإنسان الآخر، لم أجده في نصوص روسّو، رغم تعقبي وحرصي على فهم موقفه، بل وكما ذكرت سابقاً، أشار روسو إلى أنه يخاطب الأمم الإنسانية في أكثر من موضع، بل إنه في بيان الأسفار الذي عرضه لإميل، طلب منه مغادرة إقليمه وهو هنا فرنسا، ليفكّ عقده مع المجتمع غير الرشيد. حتى لو كان هذا وطن أجداده القديم، وهو الإقليم والمجتمع الذي هاجمه روسّو مراراً، وأعلن لإميل حقّه في فسخ العقد الاجتماعي معه، أي أن روسّو لم يستدع التاريخ الاجتماعي العنصري لتلك البيئة، كونها موطن فخر تاريخي، رغم أنه صاغ لها عقد الثورة والجمهورية الجديدة.
ويستطرد روسو في منابذة (قيم) الولاء والتقدّم الوطني في فرنسا، ويضرب مثلاً بالحرمة الأخلاقية التي سيتلطّخ بها إميل لو انخرط في الجيش وأصبح جندياً في عسكر باريس، وأن مهمّته المعظمة في هذه الأجواء الوطنية هي "قتل أقوام لم يتعرّضوا لك بأي أذى"، وأن مهمّة هذا الجيش لا تترتّب عليها شجاعة ولا بسالة، فهذه المنظومة تعتني بمن لا يُحسن إلا القتل وتنفيذ الأوامر، وأن بطولات الجندية قد تتحوّل إلى مخادع النساء، هذا كان تعبير روسّو عن الجيش الفرنسي في حينه (1750- 1770)، وكان يزدري القتال تحت راية القيصرية المسيحية، والتي استمرّت فيها الآلة العسكرية المتوحّشة للثورة بعدها، في غزو أفريقيا والعالم الجنوبي، وكان احتلال الجزائر من أبشع صورها.
ننتبه هنا إلى قضية مهمة، أن روسّو ينفصل عن ذلك الإرث الضخم، الذي سيطر على الأكاديمية الفرنكوفونية، فكانت شقّ الاستشراق الآخر، وينفصل عن منظّري إبادة (التقدّم) الحداثي التي استأنفت غزو العالم، ولم تتحوّل فلسفتها إلى مفاهيم تكافل إنساني إطلاقاً، بل ظلت قاعدة النهضة والتنوير في تحقيق تقدّم أوروبا المادي (الإبادي)، من دون أي اعتراف بحقوق عالم الجنوب، وفي الوقت ذاته، ناقَض روسّو مبدأه، من خلال غرقه في الإمبراطورية الرومانية وأسبارطة، فتأثرت فلسفة العقد الاجتماعي وأصل التفاوت بالتاريخ الغربي القديم.
الربوبية في حياة روسّو لم تقتلعها الكنيسة، ولم تتضخّم فلسفته مطلقاً
ثم نضع هنا نصّ روسو من كتابه "إميل": "يخرجُ كل شيء من يد الخالق صالحاً، وكل شيء (يوضع) في أيدي البشر يُلحقه الاضمحلال" لتثبيت حضور الربوبية في حياة روسّو، وأن صراعه مع ما يعتقده تغييراً لخلق الله، وبالتالي تتّضح رؤيتنا النقدية لتعميم طه عبد الرحمن عن جحود الربوية في حياة روسّو.
ونحن نحاول فهم هذا التناقض، لا لإنصاف روسّو وحسب، ولكن لتفكيك إرث الفلسفة الغربية في التنوير القديم، وفهم عثراتها ومنزلقاتها الكارثية، وتجريد إيجابياتها أيضاً، في مسار الحضارة في المقياس القيمي الأخلاقي. ولذلك قد تبرُز لدى روسّو إشكالية الانفصال عن الأخلاق الروحية، المرتبط بالدين وبالخالق المقدّس غير المحابي لهم، في فلسفته حين يتعاطى مع تعاليم الكنيسة، إلا أن أصل الدين والإيمان بالخالق ظلّ يحضر لديه ولدى غيره ككانط، كما تبرُز لديه نزعة المواجهة مع الدين المسيحي غير العقلاني وغير التسامحي، أي أن الربوبية في حياة روسّو لم تقتلعها الكنيسة، ولم تتضخّم فلسفته مطلقا لتشابه الإنسان الحداثي في تحرير قانون حياته، ولم تعلن الإنسان الإله الذي درج عليه بعد ذلك فلاسفة الحداثة، في عقيدة فوكو ولوك فيري، وحتى من سبقهم منذ القرن الثامن عشر في زراعة أصل الفكرة الأولى للإنسان الإله، وهنا مركز تحفّظنا الرئيس على دمج طه عبد الرحمن لأيديولوجيتين بينهما تباين مهم. فلا يُمكن أن يُسقط الفارق الضخم، في قواعد التأسيس التنويري بين العهد القديم والمآل الحداثي الأخير. لقد ظل التأثّر بنازع الفطرة حاضراً الأوّل، وبالذات في عصر روسّو ومن سبقه، وكان مركز جدلهم في موثوقية النصّ الدال على بيان الموجد (الخالق لعباده)، وليس في حقيقة وجوده وارتباط الفطرة به، في حين تضخّمت العزلة عن الدين الفطري، إلى مفاصلة حتمية لا مساحة لها مطلقا في مسرح العالم، الذي صنعته فلسفة الحداثة وجيلها الأخير، وتطوّرت سلباً من بعد الثورة الفرنسية حتى الثورة الرأسمالية، وصولاً إلى أسوأ نسخ الحداثة اليوم.