"حياة الماعز"... السياسة والكفيل السعودي
ربما يفسّر المشهد القصير في فيلم "حياة الماعز" للرجل السعودي الثري بسيارته الفارهة، المتعاطف مع العامل الهندي نجيب، من ولاية كيرلا، بعد أن أمضى سنوات مستعبداً، وفي ظروف قاهرة، من مالك للأغنام في مزرعة صحراوية نائية، بعد أن أوهمه هذا بأنه كفيله، غضب كثيرين في السعودية من الفيلم الذي لا يعرض صورة إيجابية لدولتهم ولا مجتمعهم سوى هذا المشهد القصير، ومن خلال شخص واحد يدعو للعامل، قائلاً: "ربّ ارحم هذا الرجل".
أثار الفيلم جدلاً كبيراً، فنّيا وسياسياً، فبعضهم، خصوصاً في مصر، رأى أن صرف السعودية أموالاً طائلة على أعمال فنية وترفيهية لم يمنع أن يأتي نقد المجتمع والدولة في فيلم سينمائي، وعلى منصة يعدّ مشاهدوها بمئات الملايين "نتفليكس".
انقسم آخرون بشأن الفيلم فنّيا، وهذا مجال متخصّصين، ويدلّ، مرّة أخرى على قدرة "نتفليكس" على نشر الدعاية للأفلام التي يعرضها عبر الجدل المثال حولها.
حال العمّال في الخليج موضوع أعمال فنية وأدبية عديدة، ولعل رواية غسّان كنفاني "رجال في الشمس" (1963)، لا تزال غير منسية، رغم سياقاتها المختلفة المرتبطة بحال الفلسطينيين
... وبعيدا عن الدعاية والجانب الفني، لامس الفيلم قضية أساسية في المجتمع السعودي، والخليجي عموما، وهي حقوق العمّال التي كانت موضوع انتقادات من منظمّات حقوقية سنوات طويلة. وفي المقابل، كانت الدول الخليجية تعمل على تحسين أوضاعهم عبر تقنين ساعات العمل، لتفادي أشعّة الشمس الحارقة، وفتح مدن عمّالية... إلخ، لكن نظام الكفيل بحد ذاته بقي إشكاليّاً. ويحسب للفيلم أنه أعاد تقديم "الكفالة" سلعة، بمعنى أن العامل البسيط يقدّم أو يبيع جهداً (بلغة الماركسيين)، تحتاجه السوق، لا بل يستغلّه بعضهم، بسبب حاجته لها، وهي لا منّة، ولا مساعدة من الاقتصاد السعودي (أو الخليجي)، لأولئك العمّال. وهنا تظهر الرمزية العالية في مشهد الثري السعودي آخر الفيلم، الذي يدرك ذلك.
حال العمّال في الخليج موضوع أعمال فنية وأدبية عديدة، ولعل رواية غسّان كنفاني "رجال في الشمس" (1963)، لا تزال غير منسية، رغم سياقاتها المختلفة المرتبطة بحال الفلسطينيين بعد عام 1948، لكن أحداثها تدور في الخليج. وكذلك الفيلم المصري "عرق البلح" المصري، الذي يناقش غواية السفر إلى الخليج، وأثمانه الاجتماعية، لكن فكرة "الكفيل" ونقدها إبداعيا يحسبان لفيلم "حياة الماعز". وكان شبّان سعوديون قد أثاروا، قبل عشر سنوات تقريبا، عبر أغنية راب بعنوان "كفيل"، جدلاً كبيراً، حيث انتقدوا نظام (أو أسلوب) تعامل الكفيل مع العمّال. وكان لافتاً أن الأغنية رحبت بها أوساط ثقافية عدة داخل السعودية. ومن كلمات الأغنية ما يعبّر عن عدم التعامل مع القوة الاقتصادية، وفق نظام الكفيل، بشكل خاطئ.
رسالة الفيلم السياسية قوية، وهذا ما تكرّر في كثير من أفلام "نتفليكس"
يجرى استبعاد المنطق الاقتصادي في التعامل مع ظاهرة "الكفالة"، حتى من المكفولين، وهم الحلقة الأضعف، لذلك لا يُلقى اللوم عليهم كثيرا، هو ناتج من طبيعة هذا النظام، الذي لم يتطوّر كثيراً منذ ظهوره. ولعل سعد الدين إبراهيم من أوائل من تلقّف الفكرة في كتابه "النظام العربي الجديد" بداية ثمانينيات القرن الماضي، حين أشار إلى النماذج الاقتصادية -الاجتماعية الصاعدة في السوق العربية، ووصف نظام الكفالة بأنه "دور اجتماعي - اقتصادي من أغرب أنواع الأدوار في التاريخ"، فالكفيل، بمجرّد "تحمّل مسؤولية مبهمة تجاه السلطات والمكفول"، يستطيع التحكّم بالمكفول، والاحتفاظ بجواز سفره (تغيّر هذا في معظم دول الخليج)، وهنا يصفها سعد الدين إبراهيم بـ"تجارة بشرية" أقرب إلى "الرقّ المؤقت"، وهذا ما استطاع فيلم "حياة الماعز" عرضه، أن الجهد البشري هذا عرضة للسرقة، والاستغلال، ومع تطوّره، بات تعامل السلطات معه بيروقراطياً بحتاً، كما أظهر الفيلم، في بحث الكافلين عن مكفوليهم في السجن بسبب هربهم، وكأننا إزاء مشهد من أفلام الرقّ الأميركية قبيل الحرب الأهلية.
الإنتاج الهندي للفيلم يمنحه بعداً سياسياً- اجتماعياً آخر، فقد كان النقد القادم من الدول المصدّرة إلى العمالة للخليج محدوداً، فدول كالهند وباكستان وبنغلادش، وأخيراً من دول أفريقية (خصوصا في الإمارات وقطر)، وبحكم الأعداد الكبيرة المتّجهة إلى تلك الدول الخليجية، تتفادى نقاش أوضاع العمّال من مواطنيها، وبالتالي، قد يكون "حياة الماعز" رسالة إلى الداخل الهندي أيضاً، خصوصاً أن المجتمع يشهد صعوداً يمينياً ويُعاد طرح الأسئلة القومية، وإن بشكل سلبي في معظم الأحيان. وعليه، قد لا تحصر حقوق العمّال وظروف عملهم في دول الخليج، لا بل قد تثير الجدل في الدول مصدّرة العمالة أيضاً.
رسالة الفيلم السياسية (لا يناقش المقال جوانبه الفنية) قوية، وهذا ما تكرّر في كثير من أفلام "نتفليكس". ولافتٌ أن يثار موضوعٌ الكفيل، بعد أن عُرض في فيلم، وهو الذي لم يكن يثار إلا على استحياء عربياً، وهو ما يستدعي انخراطاً أكبر في هذا الجدل والنقاش، ومراجعة خليجية لنظام الكفالة، خصوصاً أن الدول الخليجية، وتحديداً السعودية، تبدي صعوداً واضحاُ في دعم الاقتصاد المفتوح، وتشكّل نموذجاً لدعمها عالميا. وبالتالي، فيلم مثل "حياة الماعز"، سيتكرّر مرّات، ولن يقتصر على هذا الجانب.