حوار معلّق في موريتانيا
لا تعرف الديمقراطيات في الدول المستقرّة سياسيا، وينتظم التعاقد المجتمعي فيها في دساتير وقوانين ومؤسّسات، بدعة الحوارات الوطنية التي اخترعتها سلطاتٌ عربية، في مراوغاتها التي تتوخّى منها تظهير نفسِها منفتحةً على الجميع، تقبل كل تصوراتٍ واجتهاداتٍ من أجل الصالح العام. .. هناك، الحوار قائم أصلا، في البرلمانات، يُخاض فيها الاختلاف والتوافق، وفي المنابر والوسائط التي يعبُر فيها الرأي العام، وتمثيلاتُه في تشكيلاتٍ مدنيةٍ ومهنيةٍ وحزبية. أما في بلادنا، فالاختناق الظاهر، ومصادرة المجال العام، وارتجال القرارات بالفردانية إياها، والديكورية التي عليها أغلب البرلمانات المنتخبَة، وتشبيك قنوات الفساد ومنافذه مع بعضها، وحيازة العسكر في غير بلدٍ باطن السلطة، كل هذه وغيرُها، يتوسّل الحكم في هذا البلد العربي وذاك التعمية عليها، بدعواتٍ إلى حوار وطني، أو إلى "لمّ شمل" (تسمية جزائرية مستحدثة أخيرا). ولافتٌ، في الشهور الأخيرة، هذا الازدحام عربيا في "حواراتٍ وطنية"، دُعي إليها، وجارية، ومرتقبة، ومعلّقة. ولا يعني هذا سوى أن العطب عميقٌ في منظومات الدولة العربية الراهنة. ومن شواهد هذه الحقيقة أن من نقصان العقل أن يتابع واحدُنا "الحوار الوطني" الجاري في تونس، والذي يأتي بعد "استشارةٍ إلكترونية" صلتها بالمسرح الهزلي واضحة. أما في مصر، فأطنانٌ من شكوكٍ تتابعت بعد دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي، في سهريةٍ رمضانية، إلى حوار وطني مع كل القوى السياسية، "من دون استثناءٍ ولا تمييز". والغموض المطبوعُ بالشكوك واكب إطلاق الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبّون، مبادرة "لمّ الشمل". أما إذا جاهد واحدُنا في عدّ جولات الحوارات الليبية فالذي قدّامنا، الحكومتان مثلا، ينبئ بالحال. وفي السودان، لا يبدو أن الضغوط الأميركية والأممية والأفريقية على العساكر الحاكمين نجحت في إقناع قوى الثورة بنفض ريبتِهم من حوار ٍينعقد. ..
توقّف الحوار في موريتانيا قبل أن يبدأ، أو جرى تعليقه على ما أعلن في 2 يونيو/ حزيران الحالي، الأمر الذي اعتبرته ستة أحزاب معارضة "طعنةً في الظهر". ومن عجائب هذا الحوار إنه كان وعدا في الحملة الانتخابية للرئيس، محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي بدا أنه يبرّ به، في سبتمبر/ أيلول الماضي، لمّا تعهد، رسميا، بهذا الحوار الذي "لن يستثني أحدا ولن يُحظر فيه أي موضوع"، على ما قال. والبادي مما تواتر من بياناتٍ وتصريحاتٍ وفيرةٍ في نواكشوط أن قوى المعارضة، الإسلامية وغيرها، تعمل على استثمار فرصة الحوار المرتقب من أجل "انتزاع" تنازلاتٍ حقيقيةٍ وجوهريةٍ من السلطة، وهي، في الوقت نفسه، حذرةٌ من أن يكون هذا الحوار فرصة جديدة تكسب فيها السلطة مزيدا من الوقت، تُشيع في غضونه أملا تعقبه خيبة. وليس خافيا أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في موريتانيا تعرف انتكاساتٍ حادّة، إذ تعزوها الحكومة إلى الجفاف الذي ضرب البلاد، فيما تحمّل أوساطا وازنة الحكم المسؤولية، سيما مع أجواء ركودٍ سياسي ظاهر، وفساد يتعاظم، وتراجعٍ في الحريات.
لا يتوفّر البيان الذي أعلن تعليق الحوار، المؤجّل أصلا بعد أن كان مقرّرا أن يبدأ في 3 الشهر الماضي (مايو/ أيار)، على أسباب مقنعة، فقوبل باستهجان واسع، ذلك أن "انتظار سياقٍ آخر يخدم الأهداف التي يسعى الحوار إلى تحقيقها" يُنبئ بمراوغة، وبشراء وقتٍ وتسويف، سيما وأن أمين عام رئاسة الجمهورية، يحيى ولد أحمد الوقف، الذي أشهر البيان، هو نفسُه المشرف على اللجنة المكلفة بالتحضير للحوار. وقد أعاد الكرة (بتعبيره) إلى "الطيف السياسي" للاتفاق على مسارٍ شامل يجمع جميع الأطراف. ومناطق الالتباس كثيرة في هذا الكلام، فأشواط غير قليلة قطعتها التحضيرات للحوار، وبتوافق مع المعارضة وتحالفاتها وكتلها في البرلمان الذي يحقق فيه حزب الاتحاد من أجل الجمهورية (الحاكم) أغلبية مريحة (89 مقعدا من 157)، وإنْ شهدت المداولات تجاذباتٍ طفيفةً بين فاعلياتٍ معارضةٍ. وقد جرى إقرار ملفات الحوار (تتقدّمها الوحدة الوطنية). وهذا رئيس حزب تكتل القوى الديمقراطية، المعارض البارز، أحمد ولد داده، يحذّر من "مخاطر" تهدّد موريتانيا، إذا لم تتراجع الحكومة.
.. كأنها جولةٌ عربيةٌ تقليديةٌ في تمييع السياسة وتيئيس الناس منها، بمحاولات السلطة أخذ البلاد إلى لتٍّ وعجنٍ في بديهيات معلومة. وتعليق الحوار تنويعٌ موريتاني في مشهد عربي مزدحمٍ بحواراتٍ لا رهاناتٍ كبرى على انعطافاتٍ حقيقية تنتهي إليها.