حماس التي تفاوض
لك أن ترى ما تشاء في حركة حماس، ولكنك لن تملك غير أن تندهش من الأداء الباهر في حرب المفاوضات التي تخوضُها مع العدو الإسرائيلي من أجل وقف إطلاق النار في غزّة. لا يروْن، نتنياهو وحكومته، ومعهما الولايات المتحدة، هدفاً لهذه المفاوضات غير الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، فيما هدفُها لدى "حماس" إنهاء الحرب وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزّة. وعندما يرى نتنياهو هذا المطلب هزيمةً معلنةً له ولحكومته ولـِ"جيش الدفاع"، فهذا شأنُه، على ما تؤكّد "حماس"، وبثباتٍ، عندما لا تكترث لأيّ كلامٍ عن "عروضٍ سخيّة"، تشيع واشنطن أنها تُقدّم للحركة. وهذه جولات المفاوضات غير المباشرة، تتوالى، عبر الوسيطيْن، القطري والمصري، وبحضورٍ أميركي متكرّر، منذ ما قبل ورقة باريس، في مارس/ آذار الماضي، وصولاً إلى جولة القاهرة أخيراً، مروراً بمداولاتٍ ومفاوضاتٍ ومحادثاتٍ واتصالاتٍ لم تتوقّف في الدوحة، وتتخلّلها اجتماعاتٌ وبياناتٌ ومماحكاتٌ، وسفرات للأميركيين الرفيعيْن، وزير الخارجية بلينكين ومدير الاستخبارات بيرنز، (وغيرهما)، وتدخّلاتٌ مباشرة منهما في وثائق وأوراق وتفاهماتٍ متتابعة. وبالتوازي مع تظاهراتٍ ساخطةٍ يواظب عليها أهالي المحتجزين الأسرى، ضد ترك نتنياهو هؤلاء للموت، على ما يقولون، ومع بيانات وأشرطة مصوّرة تطلقها "حماس" عن مصرع أسرى في اعتداءات إسرائيلية ومحاولات انتحار بينهم وعن سوء أحوالهم، مع مناشداتٍ من بعضهم حكومتهم أن توافق على أي صفقة لتحريرهم. ولكن هذا كله لا ينتهي إلى أيّ نهاية، بل ينتهي إلى "خلافاتٍ لا يمكن حلّها"، بحسب تعبيرٍ بالغ الدقّة لصحافي إسرائيلي.
أولى الخلاصات وأهمّها أن حركة حماس، بقياداتها الميدانية في القطاع وقياداتها السياسية في الخارج، في هذه المفاوضات (وغيرِها) تُتعب إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة (ولك أن تقول أصدقاء عرباً لها أيضاً). وتُدهشنا نحن الذين نصطفّ مع انتصارها، ونقيم على إعجابٍ بأدائها الميداني، تُدهشنا إلى الحدّ الذي قد يدفعنا إلى الإقرار بأننا لم نكن نعرف "حماس" أصلاً، ففائض الثقة بنفسها وهي تُفاوض، بثباتٍ وتصميم، تحت النيران وفي أشنع ظروف حربٍ وحصار، يضطرّك إلى الإعجاب بفرادته واستثنائيّته، فالاحتفاظ بأسرى عديدين، بينهم مدنيّون و30 ضابطاً صهيونياً على ما ترَدّد، في أنفاق وغير أنفاق، وتأمين حمايتهم وطعامهم وعلاجهم، منذ ثمانية أشهر، مع الاحتفاظ بجثامين آخرين، عملية بالغة الصعوبة والحساسية، تحتاج إلى جملة من الاحترازات الأمنية والاستخبارية والعسكرية، بل النفسية أيضاً. وهي العملية التي تترافق مع حرب مفاوضاتٍ شرسة، ربما لم يألف المستوى السياسي الإسرائيلي مثلها مع غير طرفٍ عربي، ومع الطرف الفلسطيني الرسمي المعلوم. وإذا تذكّرنا البراعة في أداء حزب الله في أثناء مفاوضاته (غير المباشرة طبعاً) بشأن تبادل أسرى، أكثر من مرّة، لن نغفل عن أن الحزب كان في غضونها مرتاحاً، وكان تأمينُه ما احتفظ بهم من أسرى (معدودين) وجثث أمراً ميسوراً، على غير التعقيدات العويصة التي يُغالبها المقاتلون الصابرون في المقاومة الفلسطينية منذ ثمانية أشهر في قطاع غزّة المطوّقة مخيّماتُه ومدُنُه ونواحيه بالعساكر الصهاينة المسلحين بقوة نيران فادحة، نتذكّر أنها نيرانٌ قتلت ثلاثة أسرى حاولوا الفرار، لكنّ أهليهم تسلموهم جثثاً، بعد أن أماتهم الجيش الذي يخوض حرب الإبادة الجارية بدعوى تحريرهم.
ليس مستغرباً أن يعلن مسؤولون إسرائيليون وأميركيون أن حكومة الاحتلال تواجه مشكلة كبرى اسمُها يحيى السنوار، لا لأنه أحد أبرز القادة الميدانيين في "حماس"، أو لأنه أبرز صنّاع "7 أكتوبر"، وإنما لأنه "داهية" كبير في عملية التفاوض. ولكن القصة ليست هنا فقط، وإنما في الذي يعشّش في أدمغة نتنياهو وأصحابه في حكومة العصابة في تل أبيب، استصغار الفلسطينيين، فلا يكون لهم أن يُلزموا مدير المخابرات المركزية الأميركية بأن تحطّ طائرته في أكثر من بلد من أجل حلّ عُقدٍ في جملتين أو ثلاث، ولا أن يَشغلوا حكومة الحرب في اجتماعات متتالية، وانتظار رد فلسطيني لياليَ متتابعة بشأن تمرير عبارةٍ هنا وأخرى هناك ... هذا لا يُحتمل، ولهذا يصبح التوافق على وقف إطلاق النار أشبه بتربيع الدائرة، بحسب تعبير عزمي بشارة. إذن، من يخضَع أخيراً في مفاوضاتٍ لا أحد يريد إعلان وقفها؟ إسرائيل وليست "حماس"، على ما ترجّح السطور أعلاه.