حكومات ظل الرب
من أشهر العبارات في كتب التاريخ عن خلفاء العباسيين "يا عدو الله، لقد أباح الله لي دمك". وهي تقال دائماً ضد الخارجين على الخليفة، أو المخالفين له... تبدو تلك رؤية عباسية خاصة للدين، مخالفة الحاكم هي عداء لله، وهي الشرعية التي استند إليها العباسيون. إنهم أبناء عم رسول الله، وأوْلى الناس بالسلطة، فمن نازعهم نازع الله في سلطانه. بينما في العهد الأموي لم يكن الخروج على الحاكم أمراً مُفزعاً. بل على العكس كان الخارجون يعتبرون أن لهم الحق الإلهي في التمرّد. بينما يدافع بنو أمية عن حقهم في الملك بحجّة "القدرة السياسية". ولعلهم في ذلك مشوا مع ما روي عن مؤسّس سلطتهم معاوية بن أبي سفيان، حين قيل له إن هناك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يصف ما بعد الخلافة الراشدة بأنه ملك عضوض، فقل رضينا به ملكاً، فلم ينازع الأمويون في شرعية ملكهم بالحق الإلهي كما فعل العباسيون الحاكمون، والعلويون المطالبون.
تغيّرت، في عصرنا الحديث، شرعية الحكم ورسّخت لشكل آخر غير الحقّ الإلهي. لكن ذلك لم يمنع بعض الأنظمة من استمداد شرعيتها من السلطة الإلهية العليا. أعدمت السلطات الإيرانية اثنيْن من المتظاهرين ضدها بتهمة "العداء لله". في 8 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، أعلنت طهران إعدام المتظاهر محسن شكاري، وفي صباح 12 ديسمبر أعلنت إعدام مجيد رهنورد، وتهمتهما العداء لله والتظاهر ضد النظام.
خرج المتظاهرون المحاكمون ضد نظام الملالي الايراني، وضد قوانينه القمعية التي تقيّد حرية النساء. وفي نظر المحاكم الثورية والنظام الإيراني أباح الله دماءهم. تنفّذ هذه المحاكمات الثورية التي تتم باسم الرب إعدامات علنية، حتى يتّعظ العباد. في السياق نفسه، قامت السلطات الإندونيسية بتعديلات قانونية، منها حظر العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج. وبينما لقي هذا الحظر التركيز الإعلامي الأبرز، جاء معه على هامش الاهتمام الإعلامي حظر انتقاد رئيس البلاد، أو أيديولوجيا الحكم! وبشكلٍ ما، تبدو هذه هي التعديلات المهمة. ألا يعود في مقدور شخص انتقاد رئيس الدولة. لكن هذا التعديل يحتاج واجهة تمنع المساس به، فتكون الواجهة هي تجريم ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، فتنصرف الأنظار إلى هذه المسألة المهمة دينياً. تصبح قضية الحق في انتقاد رئيس الدولة ثانوية، بل بشكل ما تصبح قضية لها حصانة، فلو جرؤ شخصٌ على الاعتراض على هذه التعديلات سيجرى اتهامه بالدفاع عن الجنس خارج الزواج، لا الدفاع عن الحق في انتقاد رئيس الدولة. بل إن معلقين كثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي احتفوا بهذه التعديلات من دون الوقوف لحظة واحدة عند منع انتقاد الرئيس.
هذه صورة أخرى من صور جعل المساس بالحكام مساساً بالدين وبالخالق. ليس بالضرورة أن تكون كل صور هذه المسألة فجّة مثل النظام الإيراني. إنما يمكن تلبيسها في هذه الصيغ الماكرة. مثلما فعل نظام جعفر نميري في السودان عام 1983، عندما ضاقت عليه الأمور بسبب الأزمة الاقتصادية والمجاعة، فقرّر إعلان الحكم بالشريعة الإسلامية، ومحاكمة منتقديه بتهمة الإفساد في الأرض والخروج على الحاكم الشرعي. وكذلك فعل رئيس غامبيا يحيى عمر جامع في 2015 عندما أحاطت به القلاقل، وفقد كل فرص الحكم، فأعلن الحكم بالشريعة، وأن غامبيا أصبحت دولة إسلامية... لم تمنع هذه الألاعيب سقوط نميري وجامع في ثورتين شعبيتين، فالتخفي خلف اسم الله للحفاظ على السلطة لا يمنحك حصانة حقيقية. لذلك تبدو رهانات النظامين الإيراني والإندونيسي غير مطمئنة، فالشعوب الحديثة لم تعد ترضخ لما كانت ترضخ له الأمم السابقة. ومن الصعب تعطيل التغيير بحجّة الحكم باسم الله، فالشعوب باتت تؤمن أن الله هو العدل، وليس البطش، كما تؤمن الحكومات.