حكايات عن ثوب جدّتي
أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) التطريز الفلاحي الفلسطيني ضمن قائمة التراث الإنساني غير المادي، ما يمثل اعترافا بالهوية الثقافية الفلسطينية التي صمدت في وجه محاولات طمسها وسرقتها من الاحتلال الإسرائيلي. والواقع أن محاولات الطمس والسرقة لم تتوقف عند سرقة الزي الفلسطيني، وقبله أصناف الطعام الشعبي، بل سبقتها سرقة الأرض. وعلى الرغم من أن ثوب جدّتي الذي لا يزال مرابطاً في خزانتي أطول عمراً من عمر ما يزعمون أنها دولتهم، إلا أن ذلك لم يمنع وقاحة ذلك المحتل البغيض وتزويره وتزييفه، وما زلنا، نحن الفلسطينيين، نكافح على الصعد كافة. وإن كان الحفاظ على الثوب المطرّز هو أضعف الإيمان، فلا يزال ثوب جدّتي أعز ما أملك، والارتباط به مصدر فخر لي أينما حللت كفلسطينية. ويمكن أن أحكي عنه حكاياتٍ وأروي القصص التي عايشتها، وكيف كانت قطعة قماش تحكي وتتكلم وتعبّر. وحين يصمت اللسان ويطوي الخجل أو الخوف والقمع الحروف والكلمات، فهنا يأتي دور هذه القطعة، لكي تتكلّم وتروي حكايات وتاريخ ومعلومات جغرافية أيضاً. وتشير المعلومات التاريخية إلى أن الثوب الفلاحي الفلسطيني قد وجدت له صور ورسومات مشابهة طرّزت بها ملابس ملكات الكنعانيين قبل نحو ثلاثة آلاف عام.
لثوب جدّتي لأبي الفلاحي المطرّز الذي أورثتني إياه مع عقد ذهبي كان يطلق عليه "حبّات الزيتون" حكاية عزيزة على قلبي، فلم أكن أعلم أن العقد ضمن وصيتها لحبّها الشديد لي. ولذلك لم أعترض حين قرّرت أمي بيعه أمام ناظري لأنه لم يكن يجاري موضة العصر حسب رأيها، واستبدلت به مشغولات ذهبية صمّاء، فيما كان عقد "حبّات الزيتون" يحكي تاريخا ويصف جغرافيا. وقد اعتصرني الألم حين علمتُ أنه كان ميراثا ووصية لي. ولذلك حافظت على ثوب جدّتي الذي طرّزته بيديها المحبّبتين الممتلئتين، ولم تكن ترتديه حين استقرّ بها المقام في غزة بعد النكبة إلا في مناسبات الأفراح والأتراح. وحين تخرجه من خزانتها وأراها تستعد لارتدائه، أفهم من دون كلام أنها في طريقها لتهنئ أو تعزّي عزيزاً أو حبيباً، وماتت جدّتي وتسلّل ثوبها إلى خزانتي وقلبي، وصرت أتتبع حكاياته ورواياته ومنها حكاية عمّتي مع أثوابها المطرّزة، وكيف أنها حين كانت تغضب من زوجها وتلجأ لبيت أهلها، ترتدي طوال الوقت ثوبها المطرّز، ولكنه يكون بالياً مرقّعاً دلالة على الحزن، وعدم هوان العشرة، فهو يرسل رسالة صامتة، حتى إذا ما اشتاق زوجها لعشرتها أرسل واحدةً من قريباته يتقصّى أخبارها، فإن أخبرته بأنها ترتدي ثوبها المرقّع البالي تيقن من حزنها وشوقها، فيسرع لكي يصلح ذات البين بينهما، ويعيدها إلى بيتها، فترتدي ثوبها المطرّز الجديد، وتمسّد شعرها وتخطّ عينيها بالكحل، وتصبغ شفتيها بقلم حمرة اشتراه لها ذات يوم بعيد من سوق مدينة المجدل المجاورة لقريتهما.
وقد علّمتني جدّتي أن للثوب الفلسطيني لغاته الحية التي يفهما كل ذي عقلٍ لبيب، فالصبية الراغبة بالزواج يكون ثوبها أسود، ومطرّزاً بلون واحد، وهو الأزرق، وزخارفه قليلة جدًا دلالة على الحياء. أما المتزوّجة حديثاً فيكون مطرّزا تطريزًا كثيفًا، وله عدة ألوان تميل، في معظمها، إلى الأحمر القاني والبرتقالي والأصفر الكموني. أما الأرملة فيكون ثوبها مطرّزًا بالأزرق المخضر، وثوب العروس يمتاز بألوان جذّابة وفرحة، تتسلل خلاله عروق التطريز وعديد من الخيوط الذهبية التي تعرف باسم "عرق الجواهر".
وإن كان الثوب الفلسطيني يعبر عن حالة اجتماعية للنساء، فهو يعبّر عن مكانها وانتمائها، فالمرأة التي تعيش في الصحراء ترتدي ثوباً برتقالياً محمراً، فيما ترتدي المرأة التي تعيش في المناطق الجبلية ثوباً قليل التطريز، لأنّها تشارك الرجلَ في أعمالِ الحقولِ فلا وقت لديها للتطريز. أما المرأة المدنية مثل التي عاشت في مدينة يافا، فهذه امرأة منعّمة، فيطلق على ثوبها اسم "السّافرية"، ويمتاز بكثافة التطريز، لكثرة فراغ صانعته وتنعّمها، ما أورث جدّتي لأبي غبطة طيبة على جدّتي لأمي اليافاوية.