حق العودة المصري
يتعارف المعارضون المصريون فى سجون النظام، منذ انقلاب 2013، على مصطلحات كانت أقرب إلى الحالة الفلسطينية (بخصوصيتها ووضعها المعقد)، على غرار التغريبة والتجريدة، والتي أضيف لها، أخيرا، فيما يخص المهجّرين، حق العودة. الفرق أن الضحية هناك فلسطيني، والضحية هنا مصري لكن الجاني مصري أيضاً.
والتغريبة لمن لا يعرفها في الحالة المصرية هجوم بربري يرتبط بالقمع وتجريد الزنازين والاقتحامات التي تنتهي بإجبار السجناء على الزحف على بطونهم، حفاةً عراةً مقيّدي الأيدي معصوبي الأعين، إلى سيارات الترحيلات، ومنها إلى السجون والمنافي الجديدة البعيدة عن أسرهم ومجتمعهم، ليتم استقبالهم فى حفلات ترويع بالكلاب البوليسية والصفع والركل والضرب بالهراوات والجنازير الحديدية والكابلات الكهربائية والسباب الفاحش البذيء، ليعيشوا وأسرهم التغريب والنكبة الحقيقية، ولكن في الألفية الجديدة وعالم ما بعد التحضّر الذي ينحاز للجانب الأقوى وعلاقات المصالح.
يتناقض حق العودة في الحالة الفلسطينية مع الوعود البلفورية التي صدرت في القرن التاسع عشر واستمرّت حتى صدور وعد بلفور عام 1917، تبعاً لرؤية عبد الوهاب المسيري، وانتهت برفض الآخر، والاستيلاء على أرضه وتغريبه وتهجيره.
لم يكن النظام العسكري في مصر فى حاجة لوعد بلفوري، لينقضّ على الحكم ويستولي عليه، ويقتل معارضيه على المشاع، ويعتقلهم في سجون قاسية عقدا كاملا، ويجبر من استطاع منهم على الفرار إلى التهجير المفتوح، ليعيش نكبة مشابهة بالكلية للنكبة الفلسطينية ومعاناتها، بلا أدنى أمل فى العودة.
طرح السادات فكرة العودة على نشطاء عديدين في الخارج، عبر مظلة الحوار، بشكل فردي وسرّي طوال أكثر من عام
أعاد النائب السابق ورئيس مجموعة الحوار الوطني، محمد أنور السادات، الحياة إلى مصطلح حق العودة بعمومه، حينما طرح مبادرة مشروطة يعود بموجبها المعارضون المصريون إلى بلادهم! وقبل أن نسأل عن الدوافع التي أدّت إلى طرح الوعد الساداتي التي نالت حظاً وافراً من الجدل، ووصل إلى حد الاستهزاء والسخرية، وسر التوقيت، يمكن القول إن ما طُرح ليس جديداً. لقد طرح السادات فكرة العودة على نشطاء عديدين في الخارج، عبر مظلة الحوار، بشكل فردي وسرّي طوال أكثر من عام، وحتى قبل إطلاق الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان. وأوضح السادات نفسه أن بعض المواطنين عادوا في سلام، واطمأنوا على أسرهم وذويهم، ثم عاد من كان لديه رغبة منهم في العودة إلى الخارج، رغم أن عمر المبادرة المعلنة أيام.
صاحب المبادرة عنصر نشط لا يتوقف عن الحركة والعمل والسفر والترحال، من أجل قضيةٍ ما، وقد حلّلت، منذ قرابة العام، أداء عمل مجموعة الحوار الدولي التي يتزعمها السادات، وخلصت إلى أنها، فى الغالب، أحد الوجوه الاستباقية، للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وأننا بالفعل أمام طريقة مختلفة لغسل وجه النظام خارجياً، ربما تبدو أكثر حنكةً، فهو الوحيد الذي يعترف بوجود أخطاء وانتهاكات، ويتحدّث عنها، مثل قصة الفتاة التي شاهدها معصوبة العينين فى مقرّ أمن الدولة بمدينة نصر، وهي تعتقد أنها في منطقة سموحة بالإسكندرية، والتي تأثر بها إنسانياً بشدة، لكنه، في الوقت ذاته، يعتبر أن أي تحرّك إيجابي، ولو بسيطا، جهد معتبر، يمكن أن يبني عليه، على اعتقاد أنه ليس فى الإمكان أفضل مما كان، وهي رؤيةٌ غير واقعية تماماً، فاعتقال أكثر من 60 ألف مصري، وسط دائرة اعتقالات مستمرّة لا تتوقف لكن تتضاعف، تحتاج، بحسب وجهة نظره وأريحيته، آلاف السنين لحلحلتها.
ينطلق السادات من رؤية خطيرة محدّدة يريد تعميقها، وجود نظام قوي مستمرّ، يجب أن نتعامل مع أجهزته، لمساعدة السجناء ومن خلفهم أسرهم التي تعاني، مع التأكيد على أنه ليس معنيا بأرقام السجناء، لكن بكيفية تخفيف المعاناة عن المحبوسين احتياطياً على ذمة قضايا أو من صدرت ضدهم أحكام بالسجن .. وأن الصدام المباشر مع النظام لم يفد أحداً.
السادات، رغم علاقاته المعروفة بالأجهزة الأمنية وتواصله الدائم معها، فشل في حماية أحد رموز حزبه، الاقتصادي أيمن هدهود
الحق في العودة للمعارضين والنشطاء أو لمن ذكر السادات نفسه "من هم في الخارج وليسوا منتمين إلى تنظيمات أو ليس عليهم أحكام"، من ناحية الشكل، حق دستوري مصون لا يمكن المساس به، وأعيد وأكرّر أن إنجازه وتحقيقه بتلك الكيفية العرفية إهدار جديد لدولة القانون، وتأكيد متكرّر على أنها لم تعد موجودة بالفعل.
ولكن من الناحية الواقعية، من سيتحمّل مسؤولية الأمان الشخصي لهؤلاء العائدين، اذا كان السادات نفسه لن يتحمّلها، وقال إنه لا توجد لديه أي ضمانات لها، فالمتعارف عليه أن العفو الرئاسي نفسه لم يمثل ضمانة حقيقية للمعتقل المحرّر شريف الروبي الذي أعيد اعتقاله، لا لشيء سوى شكواه من الصعوبات التي يواجهها، مثل المضايقات الأمنية والضائقة المالية، وعدم وجود عمل يتكسّب منه، والمنع من السفر. هو هنا لم يتحدّث فى السياسة ولم يهاجم النظام، وإنما تحدّث عن شأن شخصي بحت، ربما يتسع ليشمل معظم من خرجوا بالعفو. والغريب أن النظام لم ينكر ذلك، وتحدّث بعد اعتقال الروبي بساعات عن ضرورة إعادة دمج من خرجوا من السجون فى الحياة مجدّداً، عبر إعادة الموظفين إلى أعمالهم والطلاب إلى جامعاتهم!
كما أن السادات نفسه، رغم علاقاته المعروفة بالأجهزة الأمنية وتواصله الدائم معها، فشل في حماية أحد رموز حزبه، الاقتصادي أيمن هدهود، والذي قتل فى ظروف غامضة، فى مستشفى العباسية فى 5 مارس/ آذار 2022، بعد شهر من اختطافه وإخفائه قسرياً. وهدهود شخص مثالي بالمعايير التي وضعها السادات لحق العودة: عدم مخالفة دستور البلاد! ألا يكون قد صدر ضدهم أحكام، أو تورّطوا في قضايا عنف أو تحريض أو انتموا إلى جماعاتٍ أو تنظيماتٍ محظورة، رغم ذلك قتل، وكاد أن يُدفن سرّاً، ويدخل دائرة الإخفاء القسري التي تمثل تيهاً حقيقياً ومعاناة كامنة لآلاف الأسر، .. فما بالنا بالطرح الطموح الذي تمنّاه السادات، وأهمية أن تتطوّر فكرة العودة لتشمل المحكومين، أو من صدرت ضدهم أحكام غيابية!
لم يستطع رموز تحمّل تبعات الغربة، وعادوا إلى القاهرة معزّزين ظاهرياً مقابل فتح ملفات وفضح أصدقاء وكشف أسرار، قبل أن يختفوا إلى الأبد
ربما لا ترغب دولة الأمن الوطني في عودة المعارضين، وهي تجد دوراً استراتيجياً خارجياً ضخماً تتحصّل من خلاله على مكتسبات وامتيازات عبر مراقبة المهجّرين وحصارهم وتهديدهم، بينما ترغب دولة المخابرات في استعادتهم، ليوقّعوا صكوك العبودية، ويعودوا سالمين إلى ديارهم الجديدة، محمّلين بميثاق الأسر الغليظ، ويعيشوا المتابعات الدورية "أون لاين"، ويمتهنوا الانعزال ويدمنوا السكون والدِعة والصمت، كما يُفعل بمحرّري السجون في الداخل.
ربما عاد الناشط وائل غنيم من مقرّ إقامته في الولايات المتحدة بشكل احتفائي، لكن يجب ألا نتجاوز الظروف التي مرّ بها ومن بينها اقتحام منزل أسرته فى القاهرة، والتحفظ على بعض أفرادها، وإدمانه، واعتزاله العمل السياسي، واعتذاره عن المشاركة فى ثورة 25 يناير 2011، وتأييده النظام، واستخدامه في معارك "الترند" ضد مقاول الجيش السابق، محمد علي، في سبتمبر/ أيلول 2019، بمعنى أن طريق عودته لم يكن سهلاً، وأن التنازلات التي قدّمها كانت معقدة. لم يستطع رموز آخرون تحمّل تبعات الغربة، وعادوا إلى القاهرة معزّزين ظاهرياً مقابل فتح ملفات وفضح أصدقاء وكشف أسرار، قبل أن يختفوا إلى الأبد.
ربما الشيء الوحيد الذي تؤكّده المبادرة أن هناك صراع أجهزة بعيداً عن دوافعه ومدى حجمه، أما ما ستحققه تلك المبادرة، فهو استمرار حالة المد لكارثة البروباغندا الهائجة التى لا تتوقف، سواء ما له علاقة بعودة السادات وحزبه المغمور إلى الواجهة، بعد أن فشلت الإستراتيجية الوطنية برموزها وذيولها في القيام بدور كدوره، أو ربما بغرض منحه فرصةً ثمينةً ومتكرّرة لإعادة تقديم نفسه بعد أزمة أيمن هدهود، ليتم إعادة تدويره واستخدامه مجدّداً، أو أن يتم استخدام فكرة المبادرة الواهية فى مزيد من ترويج مؤتمر قمّة المناخ "كوب 27"، لكن ذلك فى معظم الأحوال لن يغني شيئاً عن النظام العالق فى نفق الأزمة الاقتصادية التي تمكّنت على ما يبدو من رقبته، وبات للمرة الأولى تحت رحمة شعبه، بعد أن أعطى لهم شهادة فشله وإخفاقه ممهورةً بختم ديونه وتنازلاته.