حقيقة السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية
إذا أردت أن تجهض مفعول حقيقة، فيكفيك أن تدندن حولها بعبارات مغمغمة، بحيث لا تسمي الأشياء بأسمائها. وإذا أردت أن تقتل موضوعيةً فكل ما تحتاج إليه هو تَضْبيب (من الضباب) الأمر بذريعة "الصوابية السياسية" أو ما يعرف بالـ "political correctness". وإذا أردت تشتيت قضية فعليك بمنطق: "ولكن ماذا عن ..؟"، أو ما يعرف بالـ "whataboutism". هذه هي تماماً الحال التي نواجهها اليوم في سياق جريمة اغتيال الناشط والمعارض، نزار بنات، رحمه الله، على أيدي الأجهزة الأمنية الفلسطينية في منزل عائلته في مدينة الخليل الأسبوع الماضي. وبعيداً عمّن هو نزار، وما هي مواقفه، وملابسات اغتياله، إذ إن القصة اليوم معروفة بتفاصيلها كافة، فإن الجريمة أعادت تسليط الضوء على حقيقة الدور المناط بالسلطة الفلسطينية، إسرائيلياً وأميركياً، ومن النظام الرسمي العربي. وبدون غمغمات، ولا ضبابية، ولا محاولات تشتيت، فإن هذه السلطة وأجهزتها الأمنية ما هي إلا أدوات لتأبيد الاحتلال الإسرائيلي للشعب الفلسطيني، مضافاً إلى ذلك عوار آخر، أنها تجسّد خلاصة القمع الرسمي العربي الذي حملته من ساحات الشتات العديدة قبل تشكيلها (أي السلطة) عام 1994. أعلم أن هذا الحكم مرفوض بمنطق "الصوابية السياسية"، ولكنني متيقن أن غالبيتنا، إن لم يكن كلنا، يتفق مع هذا الحكم، ولا يمنعنا أن نقر به إلا الأسباب الثلاثة التي استهللت بها هذا المقال، أو التحيز الفصائلي والإيديولوجي.
لا يتردّد محمود عبّاس نفسه بالإقرار أن السلطة الفلسطينية توفر لإسرائيل ترف الاحتلال المجاني، وتحمل عبء السكان عنها. وعلى الرغم من أنه تذمّر غير مرة من عدم تقدير إسرائيل لهذا الدور الوظيفي الدنيء، إلا أنه مستمرٌّ في الحفاظ عليه، ويعادي من يحاول تغييره. إنه يدرك ثمن محاولة التمرّد على هذه الصيغة أو المعادلة التي تحكم وجود السلطة، ومصير الرئيس الراحل، ياسر عرفات، رحمه الله، ماثلٌ أمامه، عندما استفاق متأخراً على حقيقة الكارثة التي ورّط الشعب الفلسطيني فيها. هذا لا يعني أن عباس وجميع قادة السلطة الآخرين من حوله "عملاء" من حيث الأصل وإرادياً، لكن هذا لا ينفي أنهم في وضعٍ، أنشأوه هم، يجدون أنفسهم فيه يؤدّون هذا الدور المُدان ضد شعبهم وقضيتهم، مع عدم إغفال حقيقة أن ثمَّة من هم عملاء بالتعريف الحرفي للكلمة. ليست العمالة بالضرورة علاقة تعاقدية بين طرفين، مُعَرَّفَةٍ وَمُحَدَّدَةٍ بشكل دقيق، ولكنها قد تنشأ جرّاء سوء تقدير، أو فساد، أو لخدمة مصالح شخصية، أو بسبب انعدام الكفاءة. والحقيقة التي لا مراء فيها أن السلطة الفلسطينية أوجدت طبقةً من المسؤولين الذين لا يتصوّرون شرعية لهم، فلسطينياً وإقليمياً ودولياً، خارجها، وبالتالي هم بحاجة إلى رضا إسرائيل، أقرّوا بذلك أم لا.
جريمة اغتيال نزار بنات أعادت تسليط الضوء على حقيقة الدور المناط بالسلطة الفلسطينية، إسرائيلياً وأميركياً، ومن النظام الرسمي العربي
في قضية اغتيال بنات، نعلم أن القوة الأمنية الفلسطينية اعتقلته وعذبته في منطقة تخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، ما يعني أن ثمَّة تنسيقاً قد جرى بين الجانبين. هذا ليس جديدا، مع أن إسرائيل هي من تدخل في العادة إلى مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية، مدنياً وأمنياً، في الضفة الغربية، في حين تختفي قوات الأمن الفلسطيني من الشوارع تماماً. لكن إسرائيل تعرف الدور الوظيفي لهذه السلطة وأجهزتها الأمنية، ومن ثمَّ لن تمانع أن تقوم نيابة عنها بالمهمات القذرة، خصوصاً وأنها تدرك، أيضاً، أن للسلطة بعدا آخر في جينات تكوينها، إذ إنها امتداد لنظام القمع والكبت الرسمي العربي. ما سبق ليس اتهاماً يُساق على عواهنه هنا، بل هي معطياتٌ موثقة.
تحدّد مراجعة سريعة للمواد المتعلقة بالترتيبات الأمنية بين الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، في الاتفاقات العديدة بينهما، منذ "أوسلو" عام 1993، بوضوح الدور الوظيفي للأجهزة الأمنية الفلسطينية في خدمة إسرائيل بذريعة "محاربة الإرهاب" و"التحريض". ولمن أراد مزيد استزادة فليراجع اتفاقات طابا 1994، واشنطن 1995، شرم الشيخ 1996، وواي ريفر 1998. ومعلوم أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة موّلا تأسيس وتدريب الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي انتشرت في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1994. كما أن دور وكالة المخابرات الأميركية المركزية (سي آي إيه) في تدريب قادة تلك الأجهزة منذ ذلك العام موثق. كان ذلك كله يتم بعلم وتنسيق كامل مع إسرائيل، ويمكن لمن أحبّ أن يعود إلى كتاب الباحث النرويجي، برينجار ليا، "بناء شرطة عرفات".
ومع أن الاستلحاق الأمني الفلسطيني لربيبه الإسرائيلي تعرّض لهزّة عنيفة خلال انتفاضة الأقصى (2000 - 2005)، إلا أنه ما لبث أن عاد أقوى من قبل بدءاً منذ عام 2005، أي بعد وفاة عرفات وتسلم محمود عبّاس رئاسة السلطة الفلسطينية، وذلك من خلال مكتب التنسيق الأمني بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وبعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، والتي فازت فيها حركة حماس، تحوّل تركيز هذا المكتب، بقيادة رئيسه، الجنرال الأميركي كيث دايتون، إلى محاولة إطلاق شرارة حربٍ بين حركتي حماس وفتح، أرادتها إدارة جورج بوش الابن حينها لإلغاء الانتخابات. وحسب وثائق أميركية، أنيطت مسؤولية الإشراف على تلك الخطة بوزيرة الخارجية، حينئذ، كونداليزا رايس، ومساعد مستشار الأمن القومي، حينها، إليوت إبرامز. وقد عمد دايتون إلى تسليح وتدريب قوات محسوبة على "فتح" لهزيمة "حماس" بالقوة في قطاع غزة، وإسقاط حكومتها، وحل المجلس التشريعي، وإجراء انتخابات جديدة تستبعد منها حماس. وتمضي الوثائق الكثيرة في هذا السياق، لتشرح دور عباس والقيادي الفتحاوي المفصول، محمد دحلان، في هذه الخطة، ودور كل من الأردن ومصر في تدريب قوات الأمن الفلسطينية. وانتهى الأمر، كما نعلم، بسيطرة "حماس" على قطاع غزة بعد هزيمتها قوات أمن السلطة.
قد تنشأ العمالة جرّاء سوء تقدير، أو فساد، أو لخدمة مصالح شخصية، أو بسبب انعدام الكفاءة
لا أريد الاستطراد في تلك الحقبة، ولكن لإزالة الغبش عن حقيقة الدور المناط بالسلطة الفلسطينية وأجهزت أمنها، من المهم التذكير هنا بالخطاب الذي ألقاه دايتون عام 2009 أمام معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وهو الذراع البحثية للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. في ذلك الخطاب، تحدث دايتون بنزق عن "الفلسطيني الجديد"، أو "الرجال الجدد" الذين أعدّهم. ولم يتردّد في التباهي بأن هؤلاء "الرجال الجدد" في الأجهزة الأمنية الفلسطينية منعوا اندلاع انتفاضةٍ ثالثةٍ عبر إحباط مساعي الفلسطينيين في الضفة الغربية من الوقوف مع قطاع غزة الذي كان يتعرّض لعدوان إسرائيلي حينها. بل ذهب دايتون إلى أبعد من ذلك، حين قال إن الهدف من بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعقيدة جديدة يهدف إلى "تقليص وجود جيش الدفاع الإسرائيلي" في الضفة الغربية، وهو ما أثبت فاعليته خلال عدوان عام 2009 على القطاع، إذ تمكّن الجيش الإسرائيلي من نقل وحدات عسكرية أساسية من الضفة الغربية إلى قطاع غزة من دون خشية حدوث فراغ أمني فيها. وحسب دايتون، فإن مسؤولاً كبيراً في الجيش الإسرائيلي سأله: "كم يمكنك أن تنتج من هؤلاء الفلسطينيين الجدد؟ وما هو الوقت المتوقع؟ إنهم طريقنا إلى الخروج من الضفة الغربية".
لا أظن أن شخصاً موضوعياً سيجادل أن دايتون نجح في إنتاج كثيرين من هؤلاء "الفلسطينيين الجدد" الذين لا يتردّد كثيرون منهم في التصريح للصحافة الإسرائيلية إن لنا عدواً مشتركاً هو "حماس". ولم يتردّدون ورئيس سلطتهم لا يخجل من الحديث بهذه اللغة، ولا مسؤولو الأجهزة الأمنية الفلسطينية؟ الأنكى أن دايتون، وحسب "وثائق الجزيرة" المسرّبة عام 2010 من مكتب كبير المفاوضين الفلسطينيين سابقاً، صائب عريقات، رحمه الله، يؤكد أن الأجهزة الأمنية التي درّبها تعتدي على الفلسطينيين وتعذبهم ولا تحترم قانوناً ولا حقوق إنسان. وحسب تصريح مسؤول كبير في الجيش الإسرائيلي، فإن "السلطة الفلسطينية تغيرت أمام أعيننا مباشرة" لتكون في خدمتنا!
السلطة الفلسطينية مجرّد أداة من أدوات الاحتلال الإسرائيلي لإرضاخ الشعب الفلسطيني وإجهاض مطالبه بالحرية والعدالة والكرامة
أترانا نفهم الآن لماذا تنتفض الضفة الغربية أعوام 2012، 2014، 2021، وما بين ذلك في محطّات كثيرة؟ عودوا إلى تصريح دايتون السالف عن دور الأجهزة الأمنية في احتواء الغضب في الضفة عام 2009. هذا يشرح أيضاً خلفية اعتقالات الأجهزة الأمنية الفلسطينية الذين خرجوا متظاهرين في الضفة الغربية نصرة لقطاع غزة خلال العدوان الإسرائيلي أخيرا عليه. ولا يشذّ اغتيال نزار بنات عن هذه القاعدة، فهذه الأجهزة صمّمت لخدمة إسرائيل، وقمع الشعب الفلسطيني، وسحق أي صوتٍ معارض بنفس سلطوي عربي، يغدو مصلحة إسرائيلية.
لذلك كله، لا يمكن الحديث عن مشروع وطني فلسطيني، فضلاً عن مشروع تحرير قبل تسمية الأسماء بمسمّياتها. السلطة الفلسطينية مجرّد أداة من أدوات الاحتلال الإسرائيلي لإرضاخ الشعب الفلسطيني وإجهاض مطالبه بالحرية والعدالة والكرامة والاستقلال. وسواء أكانت العمالة طوعية أم نتيجة غلبة الظروف، فإن نتيجتها واحدة، ولا يمكن أن تكون هناك سلطة وطنية تتنفس من خلال رئة الاحتلال وبضوء أخضر منه. وليس من الموضوعية أبداً أن نصمت عن توصيف الأشياء كما هي، كما أنه ليس من الموضوعية أن ننخرط في منطق و"ماذا عن؟" وذلك كما يفعل بعضهم حين يطالبوننا بالمقارنة بين ما تفعله "حماس" في قطاع غزة وما تفعله "فتح" في الضفة الغربية. إكْرَهْ "حماس" كما شئت، أَبْغِضْ الإيديولوجيا التي تحملها، أَدِنْ نمط حكمها والكثير من ممارساتها، ولكن الموضوعية تقتضي أن لا يُساوى بين سلطتها في القطاع وسلطة "فتح" في الضفة، فالأولى قد تعارضها على أسس عدة، ولكن لا يمكن تخوينها وطنياً، أما الثانية، فإنها مطالبة اليوم بأن تطهّر صفوفها وسمعتها من هذه التهمة.