حزب الله وتحدّي السلم الأهلي
عاد كابوس الحرب الأهلية يقضّ مضاجع اللبنانيين الذين يعانون أسوأ أزمة اقتصادية، حوّلت حياتهم اليومية إلى جحيم. فجأةً، تطوّر الاعتراض الشديد لحزب الله على عمل المحقق العدلي في تفجير مرفأ بيروت (أغسطس/ آب 2020)، طارق البيطار، إلى مشكلة سياسية عطّلت جلسات الحكومة، بسبب رفضها الانصياع إلى رغبة الحزب بتنحية القاضي الذي يتهمه الحزب بـ"الانحياز والاستنسابية". ومن بعدها، تحوّل الاحتجاج إلى مشكلة أمنية بعد تعرّض تظاهرة دعا إليها الحزب للاعتراض على عمل القاضي إلى إطلاق نار أدى إلى سقوط سبعة قتلى من صفوف مناصري الحزب، خرج من بعدها الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، ليتهم رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، الذي يمثل شريحة كبيرة من المسيحيين في لبنان، بأنه المسؤول عما حدث، بغرض توريط حزب الله في حرب أهلية جديدة.
السؤال الذي يطرحه اللبنانيون على أنفسهم كيف يمكن أن تتحول استدعاءات قضائية لمسؤولين سياسيين إلى ذريعة لإشعال فتيل الحرب الأهلية التي لم ينسها اللبنانيون بعد، ولماذا يجري اليوم إحياء الصراع الطائفي في لبنان بسبب تحقيق قضائي في جريمة قتل فيها لبنانيون من كل الطوائف، وتدمرت أحياء كاملة من بيروت؟
في المنازلة بين حزب الله وحزب القوات اللبنانية، تحوّل موضوع التحقيق في جريمة المرفأ إلى واجهة لخلاف سياسي أكبر بكثير
لقد حاول نصر الله، في خطابه أخيراً، التشديد على دور حزب الله في حماية الأقليات المسيحية، خصوصاً في سورية خلال سنوات الحرب الأهلية، وكيف حمى المسيحيين وغير المسيحيين في لبنان من الخطر الإرهابي التكفيري لتنظيم داعش وجبهة النصرة، وأنه هو الذي سيحميهم مجدّداً من خطر الحرب الأهلية التي يخطّط لها جعجع، بالتواطؤ مع قوى خارجية إقليمية ودولية. ومن جهة أخرى، قال حسن نصر الله إنّ لدى الحزب مائة ألف مقاتل مقابل عشرة آلاف مقاتل للقوات اللبنانية، في إشارة لا تخلو من ترهيب لحزب القوات اللبنانية.
في هذه المنازلة التي يتابع اللبنانيون فصولها على الشاشات، وعلى وسائل التواصل، بين حزب الله ومناصريه من جهة وحزب القوات اللبنانية ومؤيديه من جهة أخرى، تحوّل موضوع التحقيق في جريمة المرفأ إلى واجهة لخلاف سياسي أكبر بكثير، وليصبح بعد إطلالات حسن نصر الله المتكرّرة كأنه دفاع عن مكانة حزب الله السياسية والأمنية. وأصبح كل من يؤيد المحقق العدلي الحالي كأنه يعادي الحزب والعكس بالعكس. وذلك كله يجعل ما يجري في لبنان حالياً شديد الخطورة على السلم الأهلي، وعلى الاستقرار الأمني الهشّ، بفعل التفكك والضعف الكبيرين اللذين أصابا مكونات الدولة اللبنانية بأسرها، ولا يمكن أن ينجو حزب الله من تداعياته السياسية.
تشهد المنطقة بأسرها تغيرات جيو - استراتيجية مهمة، منها عودة سورية إلى الحضن العربي، والتخطيط لإعادة إعمارها
خلال الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة، التي بدأت منذ 2019 مع ثورة 17 أكتوبر/ تشرين الأول، تمكّن حزب الله من تعزيز مكانته الداخلية، والإمساك بكل الأوراق السياسية وإضعاف خصومه، والخروج من هذا كله أكثر تماسكاً وقوة. فلماذا، والحال هذه، يخاطر بذلك كله الآن، بينما تشهد المنطقة بأسرها تغيرات جيو - استراتيجية مهمة، منها عودة سورية إلى الحضن العربي، والتخطيط لإعادة إعمارها بمساعدة دول خليجية، والحوار السعودي - الإيراني الذي، بحسب أكثر من جهة، يتقدّم إيجابياً، واحتمال عودة المفاوضات في فيينا على اتفاق نووي جديد مع إيران؟ وكل هذه التغيرات تخدم سياسياً المحور الذي تقوده إيران، وفي مقدمته حزب الله.
هل ما يجري، كما يدّعي خصوم حزب الله، مخطط منه لضرب آخر معقل معارض له في لبنان، حزب القوات اللبنانية، وهل يخاطر الحزب بكلّ ما حققه من مكاسب مهمة داخلياً، وعلى صعيد المنطقة، من أجل الاقتصاص من رئيس حزب لبناني، حتى لو كان الثمن تعريض السلم الأهلي لخطر داهم في حال تحوّل هذا النزاع إلى صراع دموي؟
ما يجري في لبنان اليوم هو موضع اهتمام كبير من إسرائيل التي تراقبه عن كثب، وتتعامل معه بكثير من الجدّية والخطورة. وفي نظر إسرائيل فإنّ تعريض الاستقرار الداخلي في لبنان للخطر يعرّض للخطر أيضاً أكبر نجاح سياسي لها في المنطقة المتمثل بتجربة حزب الله اللبنانية. لكنّ إسرائيل تتخوّف، كالعادة، من أن يقوم الحزب بعملية على الحدود، لصرف الأنظار عن الساحة الداخلية. وفي الحالتين، تقديرها أنّ حزب الله في لبنان واقع في أزمة عميقة، قد تكون لها تداعيات تتخطّى هذا البلد.