حرب ظالمة وخاسرة

07 مايو 2024
+ الخط -

بعد مرور سبعة أشهر على الحرب الدامية والمدمّرة التي شنّتها القوات الإسرائيلية على قطاع غزّة، رداً على العملية العسكرية التي نفّذتها كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، تلك العملية التي حملت اسم طوفان الأقصى، لم تحقّق تلك القوات الغازية أيّاً من أهدافها المُعلَنة. فرغم وحشية القصف الجوّي والبرّي ومن البحر وعشوائيّته، ورغم الدعم العسكري والمالي والسياسي من الحلفاء، وفي مقدّمتهم الولايات المتّحدة، ورغم النطاق الواسع والأثر البالغ للقتل وللتشريد وللتدمير وللتجويع، لم تتمكّن تلك القوات من تقويض القدرات العسكرية، وقدرات الحكم، لحركة حماس، ولا تحرير الرهائن، ولا إعادة المشرّدين الإسرائيليين، سواء إلى مستوطنات "غلاف غزّة" أو إلى المستوطنات المحاذية للحدود مع لبنان. وليس واضحاً أنّ استمرار العملية العسكرية كفيل بتحقيق تلك الأهداف، التي أضيف إلى كلّ منها وصف "المطلق" من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وليس من المتوقّع أو المحتمل أن تتحقّق تلك الأهداف أيضاً إذا اجتيحت محافظة رفح، وفُكّكت كتائب القسام التي يقال إنّها تتحصّن في الخنادق هناك، علماً أنّ الخسائر البشرية والمادية والنفسية الإسرائيلية كانت هائلة، والتأييد الدولي، الرسمي والشعبي، لهذه الحرب الوحشية وويلاتها آخذ في التراجع، ذلك التراجع الذي يجد خير دليل عليه في المظاهرات الاحتجاجية التي تجتاح الجامعات في قارّات: أميركا الشمالية وأوروبا، وأستراليا حاليّاً، وكذلك في المظاهرات الشعبية الصاخبة التي سبقتها، وما زالت ترافقها، في القارّات ذاتها. غنيٌّ عن القول في هذا الصدد إنّ لخسارة الحرب أو للإخفاق في تحقيق أهدافها المُعلَنة تبعات بعيدة المدى على المستقبل السياسي لرئيس الحكومة وشركائه في الائتلاف الحكوميّ الذي يقف على رأسه.

فقدت حركة حماس خلال الحرب كثيراً من رجالها وعتادها وقدراتها على إدارة شؤون البلاد وحماية العباد

وبصورة مماثلة، وبعد مرور سبعة أشهر على الحرب الدامية والمُدمّرة لم تحقّق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أيّاً من الأهداف المُعلَنة وغير المُعلَنة لعملية طوفان الأقصى. فلا هي أفلحت، وليس من المرجّح أو المحتمل أن تفلح، في تفريغ السجون الإسرائيلية من السجناء الفلسطينيين السياسيين/ الأمنيين، ولا هي أفلحت في ردع الاعتداءات على المسجد الأقصى، ولا في فكّ الحصار عن القطاع، ولا في تعطيل قطار التطبيع بين إسرائيل والسعودية (وإن فرملت عجلاته مؤقّتاً)، ولا هي أفلحت، أخيراً، في جرّ حلفائها الإقليميين إلى المنازلة الكبرى أو أمّ المعارك التي تهدف إلى تحرير فلسطين. ومن جهة ثانية، لقد فقدت الحركة خلال الحرب كثيراً من رجالها وعتادها وقدراتها على إدارة شؤون البلاد وحماية العباد. ومن الواضح أنّها لن تتمكّن من الاستمرار في حكم قطاع غزّة حصرياً أو بصورة رئيسية بعد الحرب. وإلى جانب ذلك كلّه، والأكثر أهمية من ذلك كلّه، تلك الخسائر البشرية والمادية والنفسية التي تكبّدها المدنيون الغزّيون بسبب تلك الحرب المُدمّرة؛ نزوح ما يزيد عن مليون ونصف مليون من "الغلابة"، وتدمير كلّي أو جزئي لما لا يقلّ عن ثلاثمائة ألف من المساكن والمباني الحكومية والعامة، ومقتل وجرح ما يزيد على 112 ألف شخص (تضاف إليهم ألوف غير قليلة من المفقودين تحت الركام)، وحرمان من الحدّ الأدنى للدواء وللغذاء وللوقود وللأمن وللتعليم، وهكذا... معاناة المدنيين الغزّيين بسبب ويلات الحرب تبقى عصيّة على الوصف حقاً.
والعبرة، في هذه المواجهة أو المنازلة، لا مجال، كما يبدو، لنصر نهائي أو هزيمة نهائية لأيّ من الطرفيْن المتحاربيْن، خاصّة إذا كان الحديث عن نصر مُطلَق أو هزيمة مُطلَقة. وفي مثل هذه الحرب، الخسائر البشرية والمادية الهائلة سوف تظلّ، على الأرجح، من نصيب كلا الطرفيْن، وإن تفاوت حجم تلك الخسائر ومداها وتبعاتها، من طرف إلى آخر. غنيّ عن القول إن معايير النصر والهزيمة تختلف من طرف إلى آخر في مثل هذه الحالة.

خلافاً لما تدّعيه وتكرّره حكومة إسرائيل وأنصارها، الحرب على غزّة، رداً على عملية طوفان الأقصى، أبعد ما تكون عن الحرب العادلة

وليس صحيحاً ما تدّعيه وتردّده حكومة إسرائيل وأنصارها من أنّ الحرب المستعرة على غزّة تنضوي تحت مفهوم "الحرب العادلة"، أي الحرب المُبرّرة أخلاقياً، ومن وجهة نظر القانون الدولي. ففي ردّها العسكري على عملية طوفان الأقصى، تجاوزت إسرائيل خطوطاً أخلاقية وقانونية حمراء كثيرة، وخرقت بصورة فظّة وفاضحة معايير الحرب العادلة، كما حدّدتها المواثيق والأعراف الدولية. وكما نعرف جيداً، فقد أوصلت هذه التجاوزات والخروق لتلك المواثيق والأعراف إلى اتهام حكومة وجيش إسرائيل بارتكاب جرائم حرب (قيد النظر في المحكمة الجنائية الدولية)، وارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، أمّ الجرائم كلّها (قيد النظر في محكمة العدل الدولية). تحديداً، لقد اخترقت إسرائيل ثلاثة معايير رئيسية على الأقلّ من بين معايير الحرب العادلة: التناسب، والتمييز، والمقاصد/ الأهداف. 
بالنسبة إلى التناسب، يجمع الخبراء والفقهاء على أنّ الردّ الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى تجاوز بكثير ما يبرّره مبدأ التناسب. فإذا كان من حقّ إسرائيل أن تدافع عن نفسها، وأن تحارب من أجل حماية سكّانها وحدودها، فليس من حقّها أن تشن تلك الحرب الثأرية الشعواء على المدنيين الأبرياء والأعيان المدنية. طبعاً، لا يبرّر مبدأ التناسب تدمير مقومات الحياة البشرية في قطاع غزّة، المحتلّ والمحاصر والمُفقَر أصلاً. وفي ما يتعلّق بالتمييز، يجمع الخبراء والفقهاء على أنّ الردّ الإسرائيلي تجاوز تلك الخطوط الحمراء الأخلاقية والقانونية التي يرسمها مبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية، التي يجوز استهدافها، وتلك المدنية التي لا تبرّر استهدافها سوى الضرورات العسكرية، وفي حدودها الدنيا. والضرورات العسكرية هذه لا تبيح طبعاً إجبار ثلاثة أرباع سكّان غزّة على النزوح إلى الجنوب، وتدمير ما لا يقل عن 60%؜ من المساكن، إضافة إلى تدمير المشافي والطرق والمدارس وأماكن العبادة، ناهيك عن الحرمان من الغذاء والدواء والوقود. ومن ناحية المقاصد والأهداف، يعرف العارفون أنّه إلى جانب الأهداف المُعلَنة للحرب على غزّة، هناك أهداف أخرى غير مُعلَنة، في صلبها تهجير سكان قطاع غزّة قسرياً أو قسرياً/ طوعياً إلى شمال شبه جزيرة سيناء، ومنها إلى دول أخرى تقبل بهم. وما زال شبح التهجير هذا يحوم في سماء محافظة رفح المُهدّدة بدورها بالاجتياح في أيّ وقت. غني عن القول، في هذا الصدد، إنّ المواثيق والأعراف الدولية تحظر مثل هذا التهجير، وتعتبره منافياً لما ينضوي تحت مفهوم الحرب العادلة، من مبادئ ومعايير وقيم.

جاءت عملية "السيوف الحديدية" ثأرية في طابعها وجوهرها، وكانت بينها وبين الحرب العادلة أبحر وجبال

هناك معايير أخرى للحرب العادلة أخلّت بها حكومة إسرائيل وقواتها الغازية، لا يتسع المقام هنا لتناولها. وما أراد كاتب هذه السطور التأكيد عليه، في هذا المقال، أمران رئيسيان: الأول، إنّ حرب إسرائيل على غزّة لم تحقّق، وعلى الأرجح أنّها لن تحقّق، أهدافها المُعلَنة وغير المُعلَنة، رغم ما لحق بإسرائيل من خسائر كبيرة، بشرية ومادية ومعنوية، ورغم ما ألحقته إسرائيل بقطاع غزّة من خسائر كارثية، طاولت الإنسان والبنيان. وبصورة مماثلة، لم تحقّق عملية طوفان الأقصى أهدافها المُعلَنة وغير المُعلَنة، رغم ما ألحقته من خسائر بشرية ومادية ومعنوية فادحة بدولة إسرائيل، وبسبب ما تلاها من ويلات للسكان والبنيان في القطاع. وبهذا المعنى، هي حرب خاسرة للطرفين المُتحاربيْن، رغم التفاوت في هول تلك الخسائر وتبعاتها من طرفٍ إلى آخر. وبصورة عامة، في مثل هذه المواجهة، يظلّ النجاح أو الفشل نسبياً وجزئياً، كما ويظلّ الحديث عن النصر المطلق شططاً من أحاديث الأولين. الأمر الثاني، خلافاً لما تدّعيه وتكرّره حكومة إسرائيل وأنصارها، فإنّ الحرب على غزّة، رداً على عملية طوفان الأقصى، أبعد ما تكون عن الحرب العادلة. فلا هي حرب آخر ملاذ أو ملجأ من جهة، ولا هي احترمت معايير التناسب والتمييز والمقاصد، من جهة ثانية، وأيضاً، بسبب هول ما أحدثته من خسائر ومعاناة مروّعة لا تبرّرها ضرورات القتال. 
لقد جاءت عملية "السيوف الحديدية" ثأرية في طابعها وجوهرها، وكانت بينها وبين الحرب العادلة أبحر وجبال.

560FC10B-CDDA-4D79-8111-45AEBE6BD3AB
560FC10B-CDDA-4D79-8111-45AEBE6BD3AB
سعيد زيداني

كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.

سعيد زيداني