حرب دولية على القضاء
قبل أن تضع الحرب الدولية على الإرهاب أوزارها الثقيلة، من دون أن تنجز المهمة بالكامل، كان العالم يشهد مظاهر عديدة متفرّقة، دالّة على ما يمكن تسميتها "الحرب على القضاء" في مشهد بالغ الغرابة، إذ أدّت جرائم ارتكبتها المنظمات الإرهابية إلى قيام تحالف دولي ضد الظاهرة الوحشية، فيما أدّت النزعات السلطوية وروح التفرّد والاستئثار لدى عدد من الحكام، وهنا المفارقة الفارقة، إلى شنّ بعض هؤلاء حرباً معاكسة، صامتة ومتدرّجة، ضد المؤسسات الديمقراطية، بما فيها سلطة القضاء، المؤتمنة على الدستور وسيادة القانون وكبح تغوّل السلطات التنفيذية على البرلمان.
تعزّزت مظاهر الحرب الشاذّة على القضاء، وانكسرت هذه القاعدة السائدة في الديمقراطيات الغربية على وجه الخصوص، في الأعوام القليلة الماضية، بعد ظهور من باتوا يُعرفون بالزعماء الشعبويين، وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي بدا كمدير مدرسة رائدة في أصول الحكم والتشريع، له أتباع وتلاميذ نجباء، راحوا يحذون حذوه، بل ويستمدّون من المتربع على عرش أكبر الديمقراطيات الغربية الجرأة والفظاظة تجاه السلطة القضائية، ويبثّون الكراهية تجاه القضاة المنذورين للفصل في الأحكام الدستورية والقوانين الفدرالية، وفي مقدمتهم قضاة المحكمة العليا، التي سيّس ترامب تعيين بعض أعضائها قبل انقضاء عهده بأشهر.
أول هؤلاء التلاميذ النجباء رئيس البرازيل الخاسر، جايير بولسونارو، الذي شجّع مريديه من اليمينيين والفاشيين على احتلال مقرّات الدولة في العاصمة برازيليا (القصر الرئاسي والبرلمان والمحكمة العليا) في مشهدٍ أعاد إلى الأذهان مشهد اقتحام الرعاع الأميركيين، أنصار الرجل البرتقالي، مبنى الكونغرس. الثاني من مريدي ترامب هو الرئيس الروسي، بوتين، الذي لا يقيم وزناً للقضاء، ولا للديمقراطية الشكلية في بلاده الشاسعة، كما أنه فوق المساءلة، لا من المحكمة الاتحادية ولا من مجلس الدوما، بدليل كل هذه الخسائر الفادحة والأخطاء المميتة، التي ارتكبها في حربه المتعثّرة على أوكرانيا.
وهناك حاكمٌ مماثلٌ في تونس يستحقّ معالجة منفصلة، غير أن الصديق الثالث لمشرّع الحرب على القضاء هو نتنياهو العائد إلى سدّة الحكم في دولة الاحتلال، مُحمّلاً بالعداء والكراهية للقضاء الذي يلاحقه، وهذا هو موضوع هذه الزاوية، التي تستبشر بتداعيات هذا النزاع المحتدم بين السلطات الإسرائيلية الثلاث، على من له اليد الطولى في إدارة الدولة، حيث تحاول عصابة الأربعة (نتنياهو وبن غفير وسيموترتش ودرعي) ليّ ذراع المحكمة العليا عبر تعديل القوانين والتشريعية، للإفلات من أحكام القضاء بحقّ هؤلاء الملاحقين بتهم جنائية، وهو ما قد يُسفر عن توسيع الصدع في "حائط المبكى"، وسقوط القناع عن القناع الديمقراطي المزيّف لدولةٍ ضلّلت العالم طويلاً بمزاعمها هذه.
في جديد الأنباء الباعثة على السخرية أن حزب بن غفير، وهو أحد أعضاء عصابة الأربعة الحاكمة، يدعو إلى من يُطلق عليهم اسم عصابة الأربعة في المعارضة، ويصفهم بالخونة، رئيس الحكومة السابق يئير لبيد، ووزير الأمن حتى الأمس القريب بني غانتس، ووزير أمن ليكودي سابق موشيه يعلون، ورئيس حزب ميرتس غولان، في مشهدٍ لا سابق له في الدولة العبرية، ينمّ، في ما ينمّ عنه، عن مدى تهتّك الحالة السياسية الراهنة، الناجمة عن الانقلاب الجاري فصولاً في القيم والمفاهيم والأحكام والموازين، التي كانت تُعطي للخارج انطباعاتٍ خاطئة، وصوراً مضلّلة، عن دولة ديمقراطية تعدّدية حديثة، تعلو فيها أحكام المحكمة العليا على قرارات الحكومة والبرلمان.
ليس معلوماً بعد ما النتيجة النهائية للمعركة الدائرة الآن بين عصابة الأربعة الحاكمة، وعلى رأسها نتنياهو، وقضاة المحكمة العليا، ومن ورائها جمهور عريض من المتوجّسين خشية تفاقم مضاعفات الانقلاب السياسي والتشريعي، المتمادي يوماً بعد يوم، على الحياة المدنية لمجتمعٍ يتبتّل في محراب القوة العسكرية المجرّدة، لكنه ظلّ يبني توازناً هشّاً بين القيم الصهيونية المتطرّفة، ومعتقدات الشريعة اليهودية الحريدية، إلى أن استكمل استدارته إلى اليمين الأشدّ تطرّفاً، وبات يؤسّس لحكم المليشيا الأصولية، ويقنّن لدولة المستوطنين بوتيرةٍ سريعة، وأخذ بين يديه صلاحية مصادرة أحكام المحكمة العليا، التي كانت تشكّل مظلةً واسعةً، للتغطية على جرائم الاحتلال وانتهاكاته المتواصلة، وهذه واحدةٌ من أسوأ المبادئ وأرخص المثل التي اقتبسها تلامذة ترامب، بمن فيهم طلابه المجانين، أولئك الذين استولوا على المصحّة أخيراً.