حرب أوكرانيا بعد 150 يوماً

26 يوليو 2022
+ الخط -

بصرف النظر عن مبالغات البيانات العسكرية الأوكرانية، الدارج مثلها في كل الحروب القديمة والحديثة، وغضّ النظر عن دعايات البروباغندا الروسية المكشوفة، فان السؤال بعد انقضاء 150 يوماً على غزو موسكو إحدى أهم مكونات الفضاء السوفياتي السابق: هل يمكن بناء صورة متماسكة اليوم، عن أكبر وأخطر حرب تشهدها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك في ظلال ما هو متاح من المعلومات المتاحة عن مجريات الوضع المتغير ساعة بساعة في الأراضي الأوكرانية؟ وهل يمكن للمتابع المدقق في التقارير الإخبارية المصوّرة أن يعمل تقدير موقف للتطورات المحتملة في المدى المنظور؟
بدون معيار موضوعي سيستمر الجدال عن سير الحرب ويتحطم بشأن نتائجها الراهنة، لذا يُشكل البيان الروسي الأول عن أهداف "العملية الخاصة"، وفي مقدمتها القضاء على حكم "النازيين الجدد" في كييف، وحل الجيش الأوكراني، الأساس المتين لكل تقييم التطورات وفحص النتائج المتحققة على الأرض، بعد مرور كل هذه المدة الطويلة من العمليات الحربية المتواصلة طوال الأشهر الخمسة الماضية، هذا فضلاً عن مجموعة أخرى من الأهداف بعيدة المدى التي أراد فلاديمير بوتين تحقيقها على مسرح السياسة الدولية.
بالاستناد إلى المعيار الأصغر، المتعلق بالحالة الأوكرانية، يبدو الفشل جلياً بصورة كاملة، إن لم نقل إن النتائج كانت عكسية تماماً، فقد تحوّل الممثل الكوميدي المغمور، زيلينسكي، إلى بطل قومي ملهم لشعبه، وصار شخصية دولية يُصغي قادة العالم لها، فيما أصبح الجيش الأوكراني الضعيف، في غضون أشهر معدودة، قوة من نحو مليون مقاتل وحرس وطني ودفاع مدني وغيره، لديهم أفضل ما في الترسانة الغربية من سلاج وعتاد وخبرات وتكنولوجيات متقدّمة، وفوق ذلك كسبت روسيا عدواً جديداً على حدودها، لم يعد قليل الأهمية كما كان من قبل.
في النطاق الأوسع، تبدو الأهداف المعلنة والمضمرة للغزوة الروسية شديدة الإخفاق وغير قابلة للتحقق أكثر من ذي قبل، فقد توسّع حلف الناتو واشتدّ صلابة، وصار أقرب فأقرب إلى الجوار مما كان عليه في أي وقت مضى، كما أصبحت أميركا أكثر هيمنة على أوروبا، كما استيقظت النزعة العسكرية الألمانية من سُباتها الطويل، وتنبهت الدول الأوروبية إلى خطأ الاعتماد على مصادر الطاقة من شريك لا يتورّع عن استخدام كل الأسلحة، بما فيها أسلحة النفط والغاز والقمح، لإملاء سياساته وتفعيل نزعته الإمبراطورية للسيطرة والتوسّع.
وقد لا يحتاج المراقب خبرة عسكرية سابقة، كي يرى بعين عقله مثل هذا الأداء الحربي الروسي، الذي بدأ متعثّراً ثم آل إلى سلسلة من الإخفاقات المروّعة، منذ انكفأت الجحافل المدرّعة عن أبواب كييف، وانسحبت تحت ضربات الجيش الأوكراني بسرعة، لم تتمكّن خلالها من سحب جثث قتلاها أو حتى مدرّعاتها الممزّقة، كما وقع الرتل الممتد على مسافة 60 كيلومتراً على الطريق إلى ضواحي العاصمة الأوكرانية ضحية تكتيكاتٍ قاتلة، مكّنت المقاومة الشرسة من استهدافه بسهولة وتمزيقه شرّ ممزّق، لتختفي بعد ذلك الدبابات الروسية من المشهد العسكري، وتنحسر الأهداف الروسية على احتلال حوض الدونباس المجاور، الذي ظل عسيراً على الأخذ حتى هذه اللحظة.
ولعل أكثر ما يثير الدهشة والاستغراب في هذا الأداء غير اللائق بصورة ثاني أقوى جيش في العالم، كل هذا البطء الشديد وهذه النتائج المتواضعة، ناهيك عن كل هذا الوقت المفتوح إلى أجل غير معلوم، من أجل إنجاز شديد التواضع، تحقق بصعوبة بالغة بعد سلسلة التدمير المنهجي الشامل لبعض المدن في شرق البلاد وجنوبها، وفق عقيدة غروزني التي تم تطبيقها في حلب، وتكتيكات "ولا ذبابة" في ماريوبل أخيرا، حيث حلت المدفعيات بعيدة المدى والصواريخ "بالغة الدقة" محلّ المناورات بالدبابات والتقدّم البشري في الميدان، في مشهد قوّض الصورة العسكرية الروسية المرعبة للدول الأوروبية، وأماط اللثام عن محدودية قدرتها على الإنجاز الباهر، عندما تُقابل بالتصميم والمقاومة الشرسة.
بعد مرور كل هذا الوقت الثقيل من عمر هذه الحرب المقدّر لها أن تطول أكثر من سائر التوقعات السابقة، لم يعد الكرملين يتحدّث عن عمليةٍ تجري وفق أهدافها المسبقة، ولا في إطار جدولها الزمني المقرّر سلفاً، ولا أحسب أن هناك ما يشغل عقل بوتين المكابر حتى الآن أكثر من الحفاظ على ماء الوجه أمام القوى الغربية، التي يبدو أنها مصمّمة على إضعاف روسيا بشدة، وربما فرط عقد اتحادها الفيدرالي على نحو ما جرى للاتحاد السوفياتي.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي