حدود الموقف الخارجي في الشأن التونسي

05 يونيو 2022
+ الخط -

تتالت المواقف الخارجية، خصوصاً الأوروبية والأميركية، إبان انقلاب الرئيس التونسي قيس سعيّد، على الدستور وتجميده البرلمان المنتخب، وحله المؤسسات الرقابية والتعديلية، كما تكرّرت زيارات عديد من الوفود والبعثات التي انتهت إلى تقارير سلبية بشأن الوضع في تونس، سواءً من جانبه السياسي أو على المستوى الحقوقي. واتسمت عديد المواقف العربية والإقليمية بالحذر في مقابل الموقف الداعم سلطة الانقلاب الذي تعبر عنه بعض الجهات المعادية لثورات الربيع العربي منذ بدايتها، والتي يجمع بينها أخيراً التطبيع والتقارب مع الكيان المحتل.

ولطالما كان الموقف الخارجي يلقي بظلاله على سير العملية السياسية في تونس، لما يمثّله الاستقرار السياسي من أهمية في المنطقة وانعكاساته على المستويين الاقتصادي والأمني. وتبرز هنا الجزائر دولة جوار وشريك استراتيجي، وأهم فاعل في شمال أفريقيا، وفرنسا المتربعة على رأس الاتحاد الأوروبي، وهي المستثمر الأجنبي الأول في تونس، والشريك الاقتصادي الأساسي لها. فضلاً عن العلاقات المتطوّرة بالولايات المتحدة، خصوصاً على مستوى الاتفاقات الأمنية والعسكرية.

ليست تونس قرية معزولة عن العالم، وقد اختارت منذ الاستقلال بناء علاقات متميّزة بجوارها ومحطيها، الأفريقي والعربي، وكذلك المتوسطي، إلى جانب الاستثمار في علاقاتها بالدول الكبرى، وهو ما جعلها عضواً مؤسّساً في المنظمة الفرانكفونية الدولية، وعضوا غير دائم في مجلس الأمن. وتمثل هذه العلاقات حزمة من المصالح المشتركة، وقد تعزّز دور تونس ومكانتها فيها بعيد الربيع العربي، إذ أصبحت، بموقعها الاستراتيجي وتجربتها الديمقراطية الرائدة، محط أنظار جميع الفاعلين الدوليين واهتمامهم. وقد عبر عن ذلك حجم الاحتفاء بتونس وممثليها في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي البيت الأبيض وفي الإليزيه وعديد من المحافل الدولية.

على الرغم من المواقف الخارجية القلقة، إلا أنها لم تستطع الضغط على سلطات الانقلاب للعودة إلى مسار الديمقراطية والحوار التشاركي

وقد مثلت تونس مختبراً للانتقال الديمقراطي السلمي في العالم، ونموذجاً عربياً للتعايش المشترك، ساهمت دولٌ عديدة في دعمه وتجاوز المخاطر المحدقة به، وهو ما بوّأها للتتويج بجائزة نوبل للسلام سنة 2015. ولكن سرعان ما تحوّلت هذه الشمعة المضيئة (بنقائصها) إلى نار تحرق أبناءها، وتدمر كل ما تحقق على المستويين المادي والرمزي، في ظل قلق دولي متكرّر، جعل قيس سعيّد لا يتوانى في الردّ عليه أكثر من مرّة بطريقته القذافية، أحياناً يهاجم المؤسّسات المالية والائتمانية الدولية، وأحياناً أخرى يرفض مواقف بعض الدول بشكل فظ، عبر وزارته الخارجية، وأخيراً يطرد ممثلي لجنة البندقية في تونس. ويستند الرئيس التونسي للسيادة الوطنية والشعبية في رفض كل موقف منتقد تمشّيه السياسي منذ 25 يوليو/ تموز 2021، ويعتبر هذا تدخلاً سافراً في شؤونٍ وطنية داخلية، في وقتٍ يرحب فيه بكل من يدعمه، رغم محدوديتهم كمّاً وكيفاً، ولا يتوانى في الاتصال المباشر ببعض رؤساء الدول، ليشتكيهم معارضيه من أبناء وطنه الذين يشبههم بالحشرات ويصفهم بالمنافقين.

رفض قاطع وحاسم من الرئيس للقلق الخارجي وجميع تعبيراته يتوازى مع مفاوضات ببرامج سرّية بين حكومته والجهات الدولية المانحة لتجاوز العجز المالي والأزمة الاقتصادية. كيف يكون ذلك؟! .. وحتى يخرج قيس سعيّد من هذه الازدواجية لن يستطع تغيير تحالفات تونس الدولية بين ليلة وضحاها، كما أنه لن يستطيع أن يكون كيم جونغ أون ليحول بلاده إلى أرض مغلقة على شاكلة كوريا الشمالية، رغم استعماله المتكرّر لمعجم الصواريخ وهوسه بزيارات وزارة الداخلية والثكنات الأمنية والعسكرية.

الدبلوماسية التونسية تشهد أسوأ فتراتها، حيث تتواصل الشغورات في بعثات دبلوماسية عديدة

وعلى الرغم من المواقف الخارجية القلقة، إلا أنها لم تستطع الضغط على سلطات الانقلاب للعودة إلى مسار الديمقراطية والحوار التشاركي الدامج للجميع. ليس ذلك بسبب تصدّي قيس سعيّد لمبادراتهم "غير الموجودة"، وإنما لضعف هذه المواقف مقارنة بحجم التحدّيات والمخاوف المطروحة. ويمكن القول إن العالم يشهد ملفاتٍ أكثر تعقيدا وأهمية من تونس، على غرار الحرب الروسية الأوكرانية والتوترات المتصاعدة في القدس المحتلة، كما يمكن الاستئناس بالرأي القائل بحدوث اختلالات على مستوى موازين القوة الدولية وظهور أقطاب جديدة في الأفق، وهو ما جعل القوى التقليدية تنشغل بترتيب شؤونها وإعادة برمجة أولوياتها المالية والعسكرية. ولكن هذا لا ينفي، إلى حد اللحظة، تواصل قدرة شركاء تونس القدامى على لعب دورٍ أكثر إيجابية في سبيل تقريب وجهات النظر والنأي بها عن التحوّل من تجربة ديمقراطية إلى ملفٍّ حقوقي وأمني صرف، ناهيك عن خطر الإفلاس والعجز المالي الذي يمهد الطريق للانضمام لنادي باريس، وما يترتب عنه من خضوع للشروط المجحفة للدائنين وتداعياته الاجتماعية السلبية.

وبقدر عظمة التحدّيات الوطنية والخارجية، يذكر أن الدبلوماسية التونسية تشهد أسوأ فتراتها، حيث تتواصل الشغورات في بعثات دبلوماسية عديدة، سواء تعلق الأمر بالسفراء أو القناصل، والذي تجاوز الـ20%، بما في ذلك العواصم التي تعد مجالا حيويا وهاما من حيث طبيعة العلاقة والتعاون الثنائي المشترك مع تونس من ناحية، أو بالنظر إلى دورها الريادي والفاعل على مستويات مختلفة إقليميا ودوليا.

B77CBD47-937D-477E-B99D-EEE3A5A5EC3C
محمد خليل برعومي

باحث تونسي في علم الاجتماع