حتى لا ننسى الغنّوشي في محبسه

04 أكتوبر 2023

تونسيون يساندون زعيم حركة النهضة راشد الغنّوشي في العاصمة (21/2/2023/Getty)

+ الخط -

دخل الزعيم السياسي التونسي، رئيس حزب النهضة (الإسلامي)، راشد الغنّوشي، ابتداء من يوم الجمعة الماضي، إضرابا عن الطعام داخل زنزانته، تضامنا مع معتقلين سياسيين مضربين عن الطعام احتجاجا على اعتقالهم التعسّفي داخل سجون الرئيس التونسي قيس سعيّد، ورفضا للتراجع الكبير الذي يعرفه المسار الديمقراطي لبلادهم التي يقودها رئيسها نحو الهاوية. لقد مرّت نحو ستة شهور على اختطاف هذا الشيخ الثمانيني (84 سنة) من بيته، وما زال رهن الاعتقال التعسفي بدون محاكمة، بل وبدون سببٍ سوى ما يمثّله لسجّانيه من حالة الرهبة التي يبعثها في أنفسهم والرعب الذي يلقيه في قلوبهم عندما يرونه صامدا متشبثا بمبادئه، مؤمنا بقدره ومسلّما أمره لخالقه، زاده إيمانه وصبره ورضاه بقضاء ربه.

بدأت حركة الإضراب عن الطعام تتمدّد داخل سجون قيس سعيّد، لتشمل باقي المعتقلين من سياسيين وصحافيين، وسقف مطالبها يرتفع للمطالبة بإطلاق سراح كل المعتقلين والكفّ عن ملاحقة النشطاء السياسيين، ووقف التدهور الذي تعرفه تونس في مجال الحريات والحقوق، والعودة بها إلى سكّة المسار الديمقراطي التي أخرجه منها رئيسٌ بات معزولا داخليا ودوليا، وفاقدا كل شرعية، منذ ألغى الدستور الذي أتاح له الوصول إلى السلطة وأقسم بأن يحترمه، لكنه قام بتغييره بمجرّد جلوسه على كرسي الحكم، مدعوما بقوى الدولة العميقة التي تحرّكه من خلف، في مشاهد هزلية سمجة تثير الشفقة على الرجل، والحزن على مآل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مهد ثورات الربيع العربي.

كان الغنّوشي يعرف أنه سيأتي اليوم الذي سيُعتقل فيه، وفعلا بدأ التربّص به منذ سنوات، حتى قبل الانقلاب الذي قام به قيس سعيّد ضد الدولة ومؤسّساتها

كان الغنّوشي يعرف أنه سيأتي اليوم الذي سيُعتقل فيه، وفعلا بدأ التربّص به منذ سنوات، حتى قبل الانقلاب الذي قام به قيس سعيّد ضد الدولة ومؤسّساتها، من خلال افتعال استدعاءاتٍ وتوجيه اتهاماتٍ عبر وسائل الإعلام إياها، ومن خلال نشر شائعاتٍ تهيئ الرأي العام لاعتقاله. ومع ذلك، لم يفزع ولم يحزن ولم يغادر بلده نحو المنافي البعيدة ليسلم بجلده، وإنما ظلّ مرابطا في بيته ينتظر زوّار الفجر، وهو الذي خبر مواعيد زياراتهم غير مرّة قبل سنوات في عهد دكتاتورية زين العابدين بن علي غير المأسوف عليها. وهذا الموقف الشجاع الذي أبان عنه الرجل يبرئه من كل التهم الواهية التي تُنسب باطلا إليه، ويدعونا إلى مناصرته حتى ينال حرّيته، هو وباقي المعتقلين السياسيين، وفعلا بدأت تتشكّل داخل تونس وخارجها "جبهة مساندة السجناء السياسيين" التونسيين، تضم قوى ديمقراطيةً وحساسياتٍ سياسيةً مختلفة لدقّ ناقوس الخطر، محذّرة من استمرار الصمت أمام ما بات يمثّله الحكم الفردي المطلق لقيس سعيّد من تهديد فعلي وجدّي لحرّيات الرأي والتعبير، طاول حتى الحقّ في الدفاع بتوجيه التهم لمحامين قصد تخويف الجميع وترهيبهم، تماما كما كان يحدُث في العهد البائد زمن دكتاتورية بن علي التي حكمت البلاد بالقمع والتخويف والترهيب.

مهما كان الاختلاف الأيديولوجي والسياسي مع الغنّوشي، لا يمكن لأيٍّ كان أن يطعن في تاريخ الرجل النضالي الطويل وتضحياته الكبيرة، وفي دوره التاريخي الحاسم في تجنيب بلاده، إبّان ثورة الياسمين، مآل الدول التي تحوّلت ثوراتها إلى حروبٍ أهليةٍ طاحنةٍ أتت على الأخضر واليابس، فقد كان للغنّوشي، باعتباره زعيم أكبر تعبير سياسي في فترة الثورة، دور كبير في الوصول إلى التوافقات التي أدّت إلى المصادقة على أول دستور ديمقراطي في البلاد، وفي دخول تونس مرحلة انتقال ديمقراطي كان يُنظر إليه نموذجا للاحتذاء به في المنطقة للعبور بها من صحراء السلطوية إلى نادي الديمقراطيات الحديثة، قبل أن تقع حادثة قيس سعيّد، فمثل هذه الحوادث لا يمكن تجنّبها عند بداية كل انتقال ديمقراطي متعثر، بل تكاد تكون إحدى كلفه السياسية الضرورية غير المؤمنة، لأنها تنبّه إلى الأخطاء التي يجب تجنّبها مستقبلا لضمان تحقيق هذا الانتقال بمخاطر أقلّ.

الغنّوشي ورفاقه من المعتقلين السياسيين داخل زنازين قيس سعّيد يحتاجون منا اليوم أن نرفع أصواتنا للمطالبة بإطلاق سراحهم قبل فوات الأوان

ربما نجحت دعاية الثورات المضادّة في شيطنة شخصية الغنّوشي، وهذا يدخل في سياق الحرب الإعلامية التي أنفق عليها متعهدو تلك الثورات ملايين الدولارات، بغرض تشويه خصومهم وإسقاط ثورات الشعوب التوّاقة إلى الحرية والديمقراطية. كما أن حالة الإحباط واليأس التي زرعها إعلام تلك الثورات في النفوس طوال العقد الماضي حالت دون انتباه الناس إلى ما يتربّص بثوراتهم الحقيقية من مخاطر محدقة، وأدّت إلى تحطيم معنويات الجماهير، حتى تفقد معاني كل القيم النبيلة، مثل الحرّية والعدل والتضامن والمناصرة ورفض الظلم. يضاف إلى كل ما سبق أن حركة النهضة فقدت الكثير من شعبيّتها داخل الشارع التونسي، نتيجة سوء تسييرها الشأن العام خلال ولايتين متتاليتين، والإسلام السياسي، الذي تنتمي إليه، خسر الكثير من رصيده الشعبي في المنطقة نتيجة الضربات التي تلقّاها والعثرات التي أوقع نفسه فيها، والأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها أحزابه وزعماؤها، والوعود الكبيرة التي أخلفوها مع شعوبهم. ولكن لا شيء من كل ما سبق يبرّر هذا الصمت الرهيب أمام الظلم الذي يتعرّض له الغنّوشي ورفاقه، وتسليم الأمر كله لهذا النسيان القاسي والقاتل هو الذي سيجعلنا نتحسر على اليوم الذي قتل فيه الثور الأبيض، لأن من استهدف الغنّوشي استهدف قبله كل قيم الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة والمساواة، وهذه هي القيم التي دافع عنها الغنّوشي في كتبه، وحملها معه إلى منفاه، وحاول تجسيدها في مساره، على الرغم من كل العثرات والأخطاء التي هي من طبيعة ضعفنا البشري.

عندما سقط محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، شهيدا في قاعة المحكمة، عام 2019، لم يكن ذلك بسبب إهمال طبي فقط عجّل بانتهاء أجله، وإنما نتيجة سنوات من إهمال أكبر ونسيان فظيع كان يشعر به وهو معزول في زنزانته الباردة، بعدما تخلى عنه الأنصار وخذله الحلفاء من اليمين واليسار الذين باعوه بثمن بخس لدكتاتورية رثّة، هم أنفسهم اليوم يدفعون باهظا ثمن تواطئهم معها وخوفهم منها على حرّيتهم وما تبقى من كرامتهم. ونسيان الغنّوشي اليوم بين مخالب سجّانيه يقرّبه كل يوم من مصير مرسي، أي الوفاة منسيا داخل السجن. أما الشهادة فهي في ثقافة الرجلين مطلبُ أصحاب كل عقيدة وغايتهم، وهي بالنسبة إليهم منتهى الإيمان ومرتقى الصدّيقين والأنبياء. وحتى لو تمنّى الغنوشي الشهادة في محبسه، وتلك غايته القصوى التي عبّر عنها ساعة اختطافه، فإن تخلينا عنه في محنته الحالية يسائلنا جميعا، بل ويؤنّب ضمائر كل الحرائر والأحرار منا. لأنه عندما سيلقى الرجل مصيره شهيدا داخل زنزانته سيصبح البكاء، أو بالأحرى التباكي، عليه بدون جدوى، بل فقط يقوّي شوكة الثورات المضادّة التي تنتقم من كل رموز ثورات الربيع العربي، حتى لا تزهر أي وردة مستقبلا في صحراء الاستبداد العربي من المحيط حتى الخليج.

الغنّوشي ورفاقه من المعتقلين السياسيين داخل زنازين قيس سعّيد يحتاجون منا اليوم أن نرفع أصواتنا للمطالبة بإطلاق سراحهم قبل فوات الأوان، أمّا صمتنا الذي يديننا فهو تواطؤ مع الجلاد.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).