حالة طوارئ مائية في المغرب
ليس من المعتاد عند مجموع سكان المغرب الحديث أو التفكير بمنطق الطوارئ تجاه الماء، ونقصد سكان المدن الكبرى تحديدا، رغم أن البلد عايش في تاريخه القديم فترات جفاف عديدة، فسمّى بها حقبا من هذا التاريخ، مثل "عام الجوع" و"عام البُون" و"عام اليَبْسَة" و"عام الغَبْرَاء"... إلخ، وغيرها من أسماء يحفل بها تراثنا الشفهي، برع المؤرّخ عبد الأحد السبتي في تقفّي أثرها عبر ما أسماه التأريخ بالحوادث والكوارث والأوبئة، في كتابه "من عام الفيل إلى عام الماريكان" (المتوسط، ميلانو، 2022). ونقل عن الباحث محمد الأمين البزاز تصوّرا تقريبيا لوتيرة انتظام المجاعات والأوبئة على بعض حقب المغرب التاريخية، بلغ معدل ثلاث إلى أربع مجاعات في القرن الواحد.
الجديد في المعادلة، أن مسألة معالجة ندرة المياه بلغت اليوم مستوى التشريع القانوني، وصارت دليلا على دخول المغرب مرحلة جد حرجة في تعاطيه مع رصيده من الموارد المائية، ودخوله عصر القلق المناخي، وقلق الغذاء، فالتفكير في الأزمات التي تضرب العالم على كل مدى، القريب والمتوسط والبعيد، تؤكّد أن عنصر المباغتة سيكون حاضرا دوما، ولا بد من التفكير في نمط جديد للعيش والتأقلم.
سنعايش، إذن، تحوّلات على مستوى السلوك الخاص بالسياسات العامة، وعلى مستوى مخططات التنمية، وعلى مستوى الأفراد والشركات ومختلف الفاعلين في المجتمع، فقد صار الجميع رهينا لمستقبل يهدده الإجهاد المائي المتفاقم. تؤكّد دراسات عديدة أن المغرب سيفقد 80% من موارده المائية في غضون السنوات 25 المقبلة، ومن المرجّح أن تنخفض مستويات الموارد المائية التي يتوفر عليها المغرب إلى أقل من 500 متر مكعب لكل فردٍ بحلول سنة 2030.
المغاربة سيتعاطون مع الجفاف مستقبلا، ليس باعتباره ظرفيا ومؤقتا، وإنما معطى بنيويا
كانت هذه الأرقام غير المسبوقة من الأسباب التي دعت المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى إصدار مذكرة خاصة، عنوانها: "الحق في الماء.. مداخل لمواجهة الإجهاد المائي بالمغرب" (أكتوبر/تشرين الثاني 2022). والاستجابة كذلك للتهديد الذي سيمسّ بحق من الحقوق الإنسانية الكبرى، هو "الحقّ في الماء" الذي جعلته المذكرة إطارا مرجعيا لها. ونسترجع في هذا السياق ناقوس الخطر الذي سبق أن دقّه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وطالب باتخاذ تدابير استعجالية، ضمّنها في تقرير بعنوان لافت: "نقطة يقظة: الحقّ في الماء والأمن المائي مهدّدان بسبب الاستغلال المفرط للموارد المائية" (2020، الرباط). فجاءت مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان دليلا على عدم التفاعل الجيد مع ذلك التحذير، ودليلا كذلك على أننا عبرنا إلى مرحلة تنزيل هذه التدابير التي تأخر المغرب في استيعابها.
على كلٍ، تؤكّد المذكرة، في بداياتها، أن المغاربة سيتعاطون مع الجفاف مستقبلا، ليس باعتباره ظرفيا ومؤقتا، وإنما معطى بنيويا، وستنتقل السياسيات العمومية في هذا المجال من إدارة العرض التي كانت مبنية على افتراض الوفرة المائية، إلى إدارة الطلب حيث الاستجابة على قدر المتوفر. وذلك كله، قصد مواجهة حالة الطوارئ المائية المزمنة، وتحقيق أمن غذائي، وضمان حق الأجيال القادمة في الثروة المائية.
رغم تنويه المذكّرة بما حققته التجربة المغربية على مستوى بناء السدود، وتعميم الولوج إلى الماء، إلا أنها نبهت كذلك إلى النقص الذي شابها، بدءا بتباطؤ التعامل مع مشكلات التغير المناخي، والحكامة وتبذير الموارد المائية، والتساهل مع السلوك الاستهلاكي المفرط وغير المسؤول لها، كما انتقدت السياسات العامة التي نهجتها الحكومة على مستوى بعض الاختيارات الاقتصادية المستهلكة للماء، ذات الآثار الجانبية السلبية، المرتبطة بالقطاع الفلاحي على وجه الخصوص (مشروع المخطط الأخضر!). وإذا كانت المذكّرة بما هي جرد وفحص ودراسة للإجهاد المائي في المغرب، فلا بد أن تتضمّن مقترحاتٍ من قبيل المخطّطات الاستعجالية التي على الحكومة والهيئات الوصية والمشرّع المغربي أخذها في الاعتبار، قصد تدارك بلوغ البلد نقطة الأزمة التي لن تجدي معها أي مقترحاتٍ ترقيعية.
لا بأس من الاستثمار في القطاع الفلاحي وتنمية المنتجات الموجهة للتصدير، لكن لا بد من ترشيد العملية بناء على الكلفة
من الحلول التي تدعو المذكّرة إلى الاستعجال فيها: بناء نموذج صمود على المدى الطويل، قادر على مواجهة تواتر حالات الجفاف والنقص المائي الحاد. ثم الاستثمار في مجال البحث العلمي لبناء نموذج مستقبلي قادر على الافتراض والتوقع، والدفع بالقطاع الخاص للمساهمة في عملية التنمية المرتبطة بهذا النوع من البحوث، والتي من شأنها أن تقدّم مقترحات عملية أقل تكلفة مما هي عليه مشاريع التحلية أو تصفية المياه العادمة وغيرها. وفي سياق تجاوز مزاج التساهل مع السلوكيات الاستهلاكية التبذيرية، تدفع المذكّرة بمزيد من تأهيل المحاكم المائية ودعمها، للإشراف المحكم والسهر على تنفيذ القضايا المتعلقة بالماء، ودعم كذلك صلاحيات شرطة الماء في هذا السياق.
ومن نقاط القوة في المذكّرة ملاحظتها تجاهل المشاريع الاقتصادية الحكومية للكلفة الحقيقية للماء في أثناء وضع الخطط الاستثمارية، فلا بأس من الاستثمار في القطاع الفلاحي وتنمية المنتجات الموجهة للتصدير، لكن لا بد من ترشيد العملية بناء على الكلفة، ثم ترشيد نوع المنتجات الفلاحية المستنزفة للفرشة المائية، مثل الفواكه الآسيوية والأفوكادو والبطيخ الأحمر ... إلخ. وليس مستغربا أن تشير المذكرة إلى ضرورة إعادة النظر في نموذج النمو القائم على مركزية القطاع الفلاحي.
تؤكّد المذكرة كذلك على تفعيل "الاستراتيجية الوطنية للمياه" (2009/ 2030)، التي وضعها المغرب في سياق تعزيز موارده المائية عبر تحلية مياه البحر، ببناء 20 محطة في أفق 2030، والتي لم ينجز منها المغرب إلى حدود 2021 سوى تسع محطات، بعضها لم يدخل الخدمة بعد.
يُنذر الإجهاد المائي الحاصل المغاربة بأن واقعهم المائي لن يسوده في المستقبل إلا مزيد من ترسيخ ثقافة التعامل مع الندرة، والشدة لن يلحقها الفرج، كما عنون الأديب التنوخي أحد كتبه (الفرج بعد الشدة)، وإنما ستصير واقعا غير مرتفع! في ظل تقلّب مناخي وسياسي يعد بمزيد من الاضطرابات والتغيرات، سترتبط بموجات هجرةٍ متزايدةٍ ودائمة نحو المدن، تهدّد الأمن والاستقرار الاجتماعي، وليس لنا إزاءها إلا الأداء السياسي الحازم التوقعي والمستقبلي، والانغماس الكلي (مؤسسات، وشركات، ومجتمع مدني، وأفراد) في تدارك النقص الحاصل في مجال البحث العلمي.