جُثّة مجهولة
كانت تردّد لي، في كلّ مرّة نلتقي فيها، أنها ستموت قهراً بين الخيام. تقول ذلك وكلتانا تجلس على الرصيف بمحاذاة المخيّم الذي يضمّ عشرات الخيام، بحيث لا ترى نهايته فيما لو حاولت أن تمدّ بصرك إلى أبعد حدّ. وكنتُ أثنيها مراراً عن هذا القول، وأقول لها إنها ستعيش من أجل ابنها الشابّ الطفل، والذي ما زال يحتاجها لترعاه، فابنها، كما أخبرتني في لقائنا الأول، يعاني من إعاقة عقلية وحركية بسبب تعرّضه لنقص الأكسجين خلال ولادته، ما ترك أثراً على أجزاء دماغه التي تتحكّم بوظائف الجسم.
تعرّفتها مصادفةً، وحيث أجلس كلّ يوم بمحاذاة الرصيف، وأيمّم وجهي شطر الخيام وكأني قد امتهنت هذا الفعل، فإن كنتُ قد حظيت بغرفةٍ من إسمنت في بيتٍ مقابل، فلا يعني ذلك أنني قد حظيت بالأمان أو براحة بال، فكلّنا نشعر بغصّة النزوح والتشرّد والخوف من المجهول. ولم يكن جلوسي بمحاذاة الرصيف ساعاتٍ، خصوصاً وقت الضحى، إلا رسالة قلبية صامتة، حتى أصبحت رسالة خاصة تصدُر من قلبي نحو تلك المرأة السبعينيّة، التي دنت منّي بعينيْن دامعتيْن، لتسألني إن كنتُ أعرف شخصاً أو جهة تستطيع الحصول من خلالها على مبلغ من المال لشراء دواء يسكّن آلامها. وحين حاولت الجلوس بجواري لتستريح، وضعت كفّها المجعّدة المتغضّنة والجافّة على كتفي، فشعرتُ بوهنها وبأنني أمام جثّةٍ تمشي على قدمين.
كانت كفّها باردة، وعروقها نافرة، تُخبرك أن صاحبتها قد عانت من نحولٍ سريع، وأن صحّتها في تدهور مستمر قد يبطئ، ولكنّه يسير بها نحو النهاية.
لفتني وجهُها المُسْمَرّ، المُحترق بأشعة شمسٍ لاهبة، وقبل أن أسالها عن سكنها الأصلي، قالت لي أنا غزّاوية أصيلة من حيّ الزيتون، أقدم أحياء غزّة، ومن عائلة عريقة أيضاً، ولي ابنان وابنة، وهذا ما جعلني مختلفة عن باقي العائلات الغزّية الصميمة التي تتفاخر بكثرة الأولاد، ولكن زوجي كان قانعاً ويرى في ابنتي الجميلة الناعمة الحنون كنزاً يعادل إنجاب عشرة رجال.
صمتت، ثم سالت دمعتها التي شعرت بحرارتها، وأشارت نحو الشمال، وتهدّج صوتها وهي تقول: تركتُها هناك وفررتُ إلى هنا. ثم أخفت وجهها بكفّيها الميّتتين، وغابت في نوبة بكاء كدت أحسبها لن تنتهي إلا بسقوطها صريعة فوق حافّة الرصيف. وحين جلسَت منكمشة إلى جواري بعد أن هدأت، روت لي بشاعة ما حدث، وحيث قصف الحيّ بالصواريخ وانهار بيتها الصغير وتحته ولدها البكر وابنتها الوحيدة وزوجها، ووجدت نفسها مع ابنها المعوّق على قارعة الطريق، والدماء تنزف من جروح مختلفة في جسديهما.
تقول، وهي تلهث وتخفي عينيها الغائرتين بكفّيها الميّتتين مرّة أخرى، إنها لم تشعر بنفسها إلاّ وهي تركض فيما تسحب ابنها بيدها وتجرّه خلفها، ولا تدري كيف أوتيت هذه القوّة لكي تبتعد عن مكان القصف، وتصل إلى مشارف المدينة، وحيث وجدت الشاحنات تقطع الطريق هرباً من الجحيم نحو جنوب القطاع، فأشارت بيدها إلى إحداها فتوقّف سائقها على الفور، ودون كلمة واحدة ألقى بها وبابنها فوق حمولة الشاحنة المكوّنة من بشرٍ فارّين ومتاعٍ مقتنصٍ قليل.
أشارت نحو المخيم وقالت لي: لا أدرى كيف وصلنا إلى هنا، فحين نزل الناس أنزلوني وابني معهم، ثم اكتشفوا أننا غريبان، فيما كانوا أبناء عائلة واحدة، ولكنهم لم يلفظوني وتشاوروا فيما بينهم أن أبقى معهم حتى من دون أن أحكي حكايتي، أو أن أقول لهم لقد تركت زوجي وابني وابنتي تحت الأنقاض وهربت مع هذا البائس.
بدأ الجمعُ الفارّ في إقامة الخيام وصرتُ بينهم يعرفونني بكنية تشير إلى ابني الناجي الذي لا حول له ولا قوة إلى درجة أنهم لم يقرّروا بقاءه في خيام الرجال، بل ألصقوه بي، حيث استقرّ بي المقام في خيمة تعجّ بالنساء والأطفال الباكين على الدوام.
قالت لي: أشعرُ بالخجل لأنهم يطعمونني، ولذلك أخرج كلّ يوم لأتسوّل من المارّة أو من مخيّم بعيد، وأعود، في نهاية اليوم، ببعض الطعام وقطع صغيرة من المال، فأدفع ما جئت به من مال نحو المرأة المسؤولة عن تأمين الماء والطعام والحطب، وأدسّ بيدها ما حصلتُ عليه من مال، وقد بتّ أشعر أنني عبء عليهم مع صعوبة الحياة وتدحرج الفقر على الجميع بمرور الأيام.
هكذا تمرّ بي الأيام، ونسيتُ أنني مريضة، وهناك كومةٌ من الأدوية يجب أن أستمرّ بتناولها، فتهالكت صحّتي كما تريْن، ولم أعُدْ أقدر على الذهاب إلى أبعد من هذا المكان. ولذلك توجّهت إليك، لأسالكِ إن كنت تعرفين أحداً من أصحاب هذه البيوت المحيطة بمخيمي، علّه يمنحني طعاماً أو مالاً يسيراً.
صمتُّ، ولم أجد إجابة مدّة ليست قصيرة، حتى تمالكتُ نفسي واستوعبت كل هذا البؤس. واتّفقت على اللقاء بها كلّ مساء، لأمنحها ما استطعتُ جمعه من أصحاب البيوت، وهم أهل المدينة الأصليون، وما زالوا يملكون مصدر دخل، على العكس من النازحين أمثالي وأمثالها، والذين هوت بنا الظروف، وأتت على مدّخراتنا، وبات العيشُ اليومي همّاً لا يوصَف.
في مساء اليوم التالي، انتظرت قدومها فلم تصل إلى مكاننا المتّفق، ولذلك دبّ القلق في قلبي أمام إصرارها على الحضور، فتوجّهت صوب الخيام، وشققتُ طريقي بين الأعمدة والحبال حتى رأيت جثّة ممدّدة ينكفئ فوقها شابٌّ يبكي، فيما يتساءل الجمع عن اسمها فيردّ الشاب ذو الوجه الطفولي: إنّها أمّي.