جول جمال وجول الجنرال
ارتبط العيد القومي لمدينة بورسعيد بقناة السويس، إذ صمدت المدينة في وجه العدوان الثلاثي على مصر بعد قرار تأميم قناة السويس 1956، فقدّمت واحدة من أنبل ملاحم المقاومة الشعبية في تاريخ العالم كله.
كان العدوان الثلاثي يظن أن بالإمكان الاستيلاء على قناة السويس مرة أخرى، ومعاقبة مصر وجمال عبد الناصر على قرار تأميم القناة وإرجاعها للسيادة المصرية، فكان النفير العام من كل محافظات مصر للدفاع عن بوابتها الشمالية الشرقية ضد محاولة احتلال أجنبي، وسجّل أهالي بورسعيد بطولة خالدة في الصمود والمقاومة حتى رحل آخر جندي أجنبي في الثالث والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول 1965.
على بعد 66 عامًا من ملحمة بورسعيد دفاعًا عن مصرية قناة السويس ضد الهيمنة الأجنبية، يدشّن أهل السلطة في مصر مسارًا عكسيًا يعيد القناة إلى الأجنبي من دون غزو عسكري أو طلقة رصاص واحدة، عن طريق وضعها في صندوق استثماري مع السماح لرأس المال الأجنبي بالشراء والمساهمة فيه، وهو ما أجمع خبراء الاقتصاد والسياسة والعالمون بالتاريخ على أنه يعيد عصر الامتيازات الأجنبية، التي كانت المدخل للهيمنة على مصر ثم احتلالها.
في ذكرى ملحمة المقاومة الباسلة، كان الإعلام الرسمي المصري مشغولًا ببورسعيد، ليس بوصفها مدينة الصمود والدفاع عن مصرية قناة السويس، وإنما بوصفها المدينة التي تعيش أجواء جرائم أسرية مزلزلة من نوعية مقتل أم على يد ابنتها (المعلمة) وصديقها (الطفل) بعد افتضاح علاقة غرامية بينهما في منزلها.
أحصيت أكثر من مائة عنوان في الصحف والمواقع الخبرية المصرية عن هذه القضية خلال بضعة أيام فقط، فيما لم تتحمّل هذه المنظومة الإعلامية الغارقة في هذه "القضية الوطنية المشينة" حوارًا مع الرئيس السابق لهيئة قناة السويس، يعترض فيه على القانون الذي أقرّه البرلمان بشأن حبسها في صندوق استثماري ودعوة المستثمر الأجنبي إلى الانفراد بها داخل الصندوق.
سكت الكلام، أو تم إسكاته، عن العبث الرسمي بقناة السويس، مقابل فتح الصفحات والشاشات لكلام منهمر كالمطر عن أهمية توجّه المصريين إلى تناول أرجل الفراخ، لمواجهة الأزمة الاقتصادية الطاحنة.
لا أحد يتكلّم عن الاستبداد المسلّح الذي انتزع السلطة بالقوة وإراقة الدماء فأنتج فشلًا ذريعًا في الإدارة والحكم، وأغرق البلاد في مستنقع من الديون قفزت خلال عشر سنوات فقط من 34 مليار دولار عام 2012 إلى 155 مليار دولار في 2022 نتيجة لوثة الاقتراض من الخارج لتمويل الإنفاق السفيه في الداخل.
مسموحٌ فقط بالكلام المستفيض عن جرائم فردية مقزّزة وتصويرها وكأنها سلوك عام للشعب، كما في البذخ الإعلامي السفيه في تناول جريمة المعلمة والطفل في بورسعيد، فالشعب طوال الوقت هو المتهم بالتسبّب في الأزمة، لأنه يتناكح وينجب ويزداد تعداده، كما أنه يأكل كثيرًا ويبحث عن البروتين في اللحوم والدواجن، بينما هو هناك في أرجل الفراخ والبيض المسلوق، كما أن هذا الشعب الوغد يصوّر له شيطانه أن مدّخراته في البنوك ملكية خاصة له يستطيع التصرّف فيها والإنفاق منها كما يشاء، بينما الحقيقة أنه وماله ملك الحكومة، وحدها لها حق التصرف فيما يظن أنها أمواله.
تنطق معطيات الصورة إن الواقع يديره نظام جباية واستدانة ورهن البلاد والعباد للدائنين، على نحو أسوأ بكثير مما كان في مصر الخديوية التي انتهى بها الأمر إلى الوقوع في قبضة المحتل الأجنبي.
يحدُث ذلك كله، بينما هناك من الدجالين المنتشرين في أزقة السياسة والإعلام من لا يزالون يمضغون برقاعة نكتة أن (السيسي 2013 - 2022) هو عبد الناصر(1956)، وأن البلاد تعيش سنوات تحرّر من التبعية والوصاية الأجنبية والمد القومي العروبي .. وإلخ إلخ، ولا يلفت نظرَهم مثلًا أن ما يدور بشأن قناة السويس الآن يبدّد كل أوهام الربط والمقارنة بين عصرين وشخصين وعقيدتين وطنيتين.
وعلى ذكر القناة وبورسعيد وجمال عبد الناصر، يفرض اسم البطل العربي السوري جول جمال اسمه على الذاكرة، بوصفه أحد شهداء معركة بورسعيد الباسلة عام 1956 حين فجّر البارجة الفرنسية جان بارت التي كان الفرنسيون يعدّونها فخر بحريتهم، ونجح في إعطابها ومنعها من الوصول إلى قصف الأراضي المصرية.
أتذكّر جول جمال، وأنظر إلى جول، بل أجوال الجنرال الذي يحكم مصر الآن ويتباهى بتسجيلها، من عيّنة مد أنابيب الغاز الصهيوني في الأراضي المصرية، بعد سرقته من فلسطين، لتكون مصر مركزًا رخيصًا لاستيراد الغاز وتسييله، ثم إعادة تصديره لصالح الكيان الصهيوني.