جولة في عقل ضياء حمارشة
قليلة المعطيات المتاحة عن شخصية الفدائي الفلسطيني ضياء حمارشة، منفذ عملية تل أبيب، التي قُتل فيها خمسة إسرائيليين في الأسبوع الماضي، فباستثناء عمره (27 سنة) ومسقط رأسه (بلدة يعبد) ومدة اعتقاله (30 شهراً) وتعليمه (توجيهي)، لا يوجد ما يكفي من حيثياتٍ دقيقةٍ تتيح للباحث الاجتماعي والمحلل السياسي، أو حتى المحقق الأمني، الغوص عميقاً في البنية الفكرية والنفسية، ناهيك عن الدافعية فوق الذاتية، التي وقفت وراء قراره اجتياز الخط الرفيع الفاصل بين الحياة والموت بملء إرادته وحر اختياره، ومن ثمّ التضحية بنفسه، فداء هدف أكبر وغاية أسمى من أمنيات شاب في مقتبل عمره.
كان سبر غور فتيات وفتية غير هيّابين، من أمثال ضياء، سبقت لهم المجازفة بحيواتهم ونجوا من الموت الزؤام بأعجوبة، محلّ اهتمام محققين أمنيين وخبراء نفسيين لدى أجهزة الاحتلال، عقدوا جلسات استماع مطوّلة، وأجروا عمليات استقصاء معمّقة، للتعرّف على التركيبة الذهنية، والوقوف على الخلفيات الاجتماعية، والتدقيق في المكوّنات العقائدية، لهؤلاء الشباب الجسورين، وذلك على قاعدة فهم مسبقة، مفادها أنهم أمام أناس محبطين يائسين، فقراء مهمشين، وغير متعلمين، ليكتشف أولئك المحققون هراء افتراضاتهم المسبقة، وسقم فهمهم لجيل فلسطيني جديد، أوغر الاحتلال المديد أفئدة بناته وأبنائه بالغضب، وأشعل فيهم روح المقاومة.
وأحسب أنّ ضياء كان نموذجاً ساطعاً بالضياء، وسيفاً ذهبياً مفعماً بالمضاء الناشب في صدور أترابه، من مجايليه الذين نشأوا واشتدّت أعوادهم تحت حراب احتلال عنصري كريه، وأنه كان تجسيداً أميناً لحالة وطنية جديدة وناهضة، كانت تختمر في قلب مرحلة قديمة مترهّلة، حالة راحت تعبّر عن حضورها بعمليات الطعن والدهس، ثم بالاشتباك المسلح وجهاً لوجه، وأخيراً بالهجمات في العمق، وذلك بعدما انسدّت الدروب قدّامها وانطبقت السماء عليها، فضاقت ذرعاً بالحديث الفارغ عن السلام المراوغ، بالكلام المليان بالكلام الفاضي، فعمدت، من دون تشاورٍ مع الآباء والمنظمات والمرجعيات التقليدية، في كتابة صفحةٍ مجيدةٍ من تاريخ ثورتها الطويلة.
وهكذا استلهم هذا الأسير المحرّر بسالة رفاقه المتّقدين بروح التحدّي، قعد مع نفسه ملياً، وقلّب الأمر بصمتٍ مُطبق، ثم أعاد التقويم إلى أن قرّر الاستجابة للنداء الحبيس من دون تردّد، حيث رأى صلصاله من طينة تلك الكوكبة التي أخذت على عاتقها ابتكار نهج مقاومة مختلف عما سبق، وحملت على أكتافها الطرية مسؤولية المبادرة، امتثالاً للواجب الوطني، لنصرة الذين ازدادوا، مع مرور الوقت، قهراً على قهر، وتماهياً مع من تعمّقت في قرارة أنفسهم مشاعر التمرّد على واقعٍ يفيض بالضعف والعجز والانقسام، مع من دفعهم انغلاق الأفق إلى البحث عن خلاصٍ من خارج المؤسسات والأطر والفصائل إلى طرح نهج لا يقطع مع الماضي، بل يضيف إليه، إلى ارتياد دربٍ قد يفتح كوّة في الجدار، يعيد توجيه البوصلة، يؤجّج وتيرة الاشتباك ويراكم عليه.
باستكمال الجولة التأملية في عوالم ضياء الداخلية، لمعاينة اللحظة التي فاضت فيها الكأس، انتقل معها هذا الفدائي من فضاء التخطيط الى حيّز التنفيذ، نجد أنها لحظة متزامنة مع انعقاد اجتماع وزراء الخارجية الستة (بينهم أربعة من العرب المطبّعين) في إطار ما سُميت "قمة النقب"، وتكثّفت تلك اللحظة الكسيفة أكثر فأكثر مع وجود المدعوين على مبعدة أمتار من قبر دافيد بن غوريون، وهو الأب المؤسس للنكبة الفلسطينية الأولى، في سابقة ذات دلالة رمزية موجعة، موظفة أولاً لكيّ الوعي العربي العام، وثانياً لتعزيز الرواية الصهيونية، ومنحها بعضاً من الشرعية، الأمر الذي أثار، على الأرجح، حفيظة بهاء بشدة، أسوة بالملايين في محيطه، ودفعه دفعاً إلى التعبير عن جزعه فوق الشخصي، ومعالجة صدمته هذه بالطريقة الخاصة به.
ولعلّ الحوار الداخلي المكتوم، الذي أجراه بهاء مع نفسه في تلك الليلة الليلاء، كان مليئاً بالأسئلة الحارقة لوجدانه الوطني، المروّع لعواطفه القومية، العاصف بيقينه إزاء المسلّمات التاريخية، إذ ربما تساءل الفتى الملتاع، هل ترحّم الوزراء العرب على روح بن غوريون ودعوا السماء إلى المغفرة له؟ هل قرأوا، والعياذ بالله، سورة الفاتحة على روحه؟ هل اجتماعهم في القدس، مثلاً، كان أشد مضاضة على النفس؟ وهل ستفتح هذه الزيارة المشؤومة الباب أمام زيارة مماثلة قد تقع إلى ضريح ثيودور هرتزل في المرّة المقبلة؟ وأحسب أنه حدّث نفسه بنفسه قائلاً هذا كثير يا أخا العرب، هذا مهين وربّ الكعبة.