11 نوفمبر 2024
جولة فساد في الأردن
أما وأن في الأردن فسادا، فذلك ما لا يُنكرُه أحدٌ في هذا البلد، ولا يجد المسؤولون حرجا في الحديث عنه، غير أن ملاحقة المتورّطين فيه، ووجوب عدم تغطيتهم أيا كانوا، هو الحديث الأكثر حضورا في برامج الحكومات، وفي مداولات نوابٍ عديدين، وقبل هؤلاء وبعدهم، بين مختلف شرائح المجتمع، حيث يستطيب عديدون، وباستسهال، الكلام عن الفساد والفاسدين، وأحيانا باتهام فلان وعلان. وقد قال رئيس الحكومة، عمر الرزاز، قبل أسابيع، إن الحديث في هذا الخصوص لا يجوز أن يكون مسترسلا وكيفما اتفق، وإن على من تتوفر لديه معلومات عن أي حالة فساد أن يتقدّم بها إلى الجهات المختصة، للتحقيق فيها. وفي خطابه أمام البرلمان من أجل نيل الثقة النيابية، أكّد الرجل جدّية حكومته في متابعة كل ملفات الفساد بالكيفيات القانونية، ثم صرّح إنه سيكون "انتحاريا" في مواجهة الفاسدين. والظاهر أن المواطن الأردني يستمتع في الحديث عن الفساد و"الهوامير" من دون تحرّز، تعبيرا عن حنقه على أوضاع معيشية صعبة، وثأرا من الغلاء غير الرحيم وقلة الدخل. ولكن، لا يُحسب الأردن ضمن الدول التي يتفشّى فيها الفساد الأسود، وليس من الدول العربية المعلومة التي تُحرز مواقع متقدمةً بين الدول الأكثر فسادا في تقارير منظمة الشفافية الدولية، والتي أبان أحدُثها للعام 2017 تحسّن موقع الأردن نقطتين في محاربة الفساد، إذ انتقل من المركز 57 إلى المركز 59.
مناسبة الإتيان هنا على هذا الشأن أن قضية فسادٍ كبرى ومثيرة بدأت الأسبوع الجاري تشغل الرأي العام في الأردن، "نَبَشها" مجلس النواب في أثناء مناقشات التصويت على حكومة الرزاز (نالت ثقة المجلس بواقع 79 صوتا). ومن أوجه الإثارة (والغرابة ربما) في القضية المنظورة حاليا أمام جهات التحقيق والتحرّي أن مؤسساتٍ رسميةً مختصّةً في الدولة هي التي كشفت عنها، قبل شهور، غير أن تنوير الإعلام بشأنها جرى قبل يومين، مع إعلان الحكومة عن منع خمسة أشخاصٍ في ملف القضية من السفر، بعد يومٍ من سفر شخصٍ بارز آخر، ما أثار تساؤلاتٍ عمّا إذا كان تم تهريبه، أو تسهيل مغادرته. وإذ أجمعت تعليقاتٌ غير قليلة على أن المسألة كلها "قنبلة أمام الحكومة"، وأن "الحكومة على حد السيف" في ما يتعلق بالقضية ذات التفاصيل المريبة، فإن الحكومة أمام اختبار حقيقي، لإثبات ولايتها العامة، وعدم تستّرها على أي "نافذ" في الدولة، إذا ما تم التحقق من "تواطؤه" في أيٍّ من مراحل الفساد الثقيل التي عبرت فيها هذه القضية.
معامل غير مرخصة لإنتاج الدخّان الذي تتم زراعته في غير مكانٍ في البلد، ويتم تغليفه بإعطائه أسماء ماركاتٍ عالمية، بتصنيع مطبعةٍ هذه الأغلفة، وشبهاتٌ بشأن إدخال الآليات والماكنات والمعدّات، ويتردّد كلامٌ عن مخالفات قانونية على مدار سنوات، هبطت (والله أعلم) من 155 مليون دينار إلى خمسة ملايين دينار. وقد تمّت مداهمة معمل تصنيع دخّان يملكه الشخص الذي غادر البلاد (إلى بيروت) مسجل رسميا بأسماء آخرين. وفيما تخوض الصحافة والمواقع الإخبارية في القضية بشيءٍ من الحذر، فإن الدهشة ظاهرةٌ على الجميع مما قد يعدّ تورّط نافذين في سلطة الجمارك ومؤسسة المواصفات والمقاييس، وفي أجهزة الرقابة المختصة، وفي المناطق الحرة، وغيرهم، يشتبه في تواطؤهم وتغطيتهم وتعاميهم، إذ تثور الأسئلة الحائرة بشأن هذا كله، وكيف جرى، ومنذ متى، سيما وأن في الموضوع خطوط إنتاج في معامل ومصانع ومزارع ومخازن (وخرمنجية أيضا). ولكن شغف الصحافة بالإمساك بكل التفاصيل، وبمسار أحداث هذا الملف، يصطدم بالإجراءات القانونية التي تمنع القيل والقال في معلوماتٍ غير مؤكّدة، وتجرّم تداول أسماء أشخاص يتم التحقيق معها، ولم يتم توجيه اتهامات محددة إليها.
ليست المرة الأولى التي تذيع بين الأردنيين قصة فساد كبرى، فثمّة أرشيفٌ تحضر فيه أسماء معروفة، بعضها هارب ومطلوب، لقضايا غير قليلة، لكن ثقة الرأي العام بجدّية المتابعة والملاحقة والمحاكمة والقصاص غير قوية. وتبدو الجولة المستجدّة، في أولى أيام حكومة جديدة، بعد ساعاتٍ من نيلها ثقة البرلمان، امتحانا غير هيّن لهذه الحكومة، وللدولة عموما، فالأردنيون يشتهون توقيف أسماء ثقيلة، ومحاكمتها علنا، وحبسها، ويستعجلون أن يروا مشاهد من هذا القبيل.. هل يتحقّق لهم هذا، أو شيءٌ منه، أم أن القصة مجرد دُخان، ويمكن التضحية بأكباشٍ صغرى في غضونها؟ لننتظر ونرى.