جلاوزة الأسد: بيادق على رقعة الموت المُؤجّل
استهلالٌ لا بدّ منه، أنّ العدم السوري الراهن مُنتَجٌ طبيعي لسرديةٍ تُحيل كلّ شيء إلى نظامٍ يحكم وفق نموذج العصابة، باعتباره الشيطان الذي عقْلنَ غير المعقول على نحوٍ تمخّض عن ديسيوتوبيا فجائعية، مُحيلاً سورية إلى منظّمة ما دون دولة بجناحٍ مسلّح قوي، لتُطوى صفحتها أخيراً بصفتها قلب المنطقة النابض لمصلحة كياناتٍ ضعيفة متشرذمة على ما يشير واقع الحال. وليس في هذا ما يدعو إلى الاستهجان، إذ يكتب الصحافي الفرنسي ميشيل سورا في كتابه "سورية الدولة المتوحّشة" (نقله إلى العربية: أمل سارة ومارك بيالو، الشركة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017): "لكلّ طاغية شيطان يعلّمه، فماذا لو كان الطاغية هو الشيطان نفسه؟"، وهي مقولة اختصرت، وبدقّةٍ متناهية، صورة نظام الأسد، الذي أعطى فكرة أغنى مما نعرف في أيّ حقل آخر عن الأقاصي الوحشية التي يبلغها الطغاة. وعليه، يمكن الجزم أنّ من مقتضيات سقوط نظام الرعب هذا تفكيك البنى التي تشكّل الرافعة الأساسية له، ومنها شريحة "الأتباع" الذين جرى كسبهم بإشراكهم بالمكاسب بصفتها مغانم النظام في دولةٍ تمّحي الحدود فيها بين السيادة والإبادة، وهم، بطبيعة الحال، "جلاوزة" معروفون بالوضاعة والإجرام ولديهم استعداد لفعل كلّ شيء، يقدّمون الولاء المطلق لـ"قائد المسيرة"، ويبدعون في إنتاج أشكال جديدة من الولاء، بيادقَ ومرؤوسين، وليس شركاءَ ومبدعين، ما أدخل سورية في مرحلة مزرية من الموات السياسي في مستوى ضخامة المفارقات المجتمعية التي يعيشها السوريون اليوم.
تصفية نظام الأسد بيادقه مؤشرٌ على شعوره بالخطر، وقد ورث بشّار عن أبيه وحشيته لا ذكاءه وحنكته السياسية
وفي مملكة "الأسد أو لا أحد"، بصفتها أشدّ عدوانية وتطرّفاً حيال مواليها "الطموحين" من أيّ معارضٍ وطني آخر، يفترض بـ"التابع" أن يتقن فنّ الرقص على الإيقاع السياسي للنظام، وإذا اُستشُعِر أنّه يفكر بطريقة مستقلّة، تتمّ تصفيته بعد أن تُصبّ عليه ملامة التعثّر، ولذا وقع معظم تابِعي الأسد الذين أرادوا تغيير طبيعة الأشياء في تناقضٍ كبير، فأبواب الاستنساب والمحاباة قادت إلى دروبٍ مغايرة تماماً. على أيّ حال، لم تعد مسألة استدلال نجتهد لدعمه عند القول إنّ فعل التصفية السياسية عملية هادئة وطويلة الأمد، فأغلب التابعين جرى تغييبهم بعد انتهاء الأدوار المرسومة لهم. علي دوبا مثلاً، وهو قبضة حافظ الأسد الحديدية عقوداً ثلاثة، عندما عبّر عن رأيه المتحفّظ على تعيين بشّار وريثاً للمملكة الأسدية، استُبعِد وأُهين. وهنا للقول مرجعيات واقعية معصومة أو تكاد، إنّ "جلاوزة" الأسد ليسوا إلاّ صناديق سوداء تضم كلّ أسرار الطاغية، تستمدّ شرعيتها ومبرّرات وجودها من علاقتها بأجهزة المخابرات والمؤسّسات الأمنية، التي أبقتها مُجرّد تكوينات هامشية ليس لها من قيمة سوى دعم مشروع الأسد في إقامة الدولة البوليسية الممسكة بتلابيب السلطة من ألفها إلى يائها.
نظام الأسد يُشبع شهوة الاستبداد بالإجرام، أما الكيفية فمتروكة للظروف، ولا يعلم أنه يأكل نفسه بنفسه
من هذا المنظور، هناك حاجة ماسّة لطرح نوعٍ من الاستدراك بشأن ماهية نظام الأسد وعملية تفكيكه، وهذا عصيٌّ على السطحية والارتجال، لكن من الواضح أنّ تصفية النظام بيادقه مؤشرٌ دقيقٌ على مدى شعوره بالخطر، ودليل هشاشة وخوف. والحقيقة أنّ بشّار الأسد ورث عن أبيه وحشيّته، ولم يرث ذكاءه وحنكته السياسية، لكنهما اشتركا بممارسة الاحتكار غير الشرعي للعنف، والمرحلة المقبلة ستشهد مجموعة أكبر من الاغتيالات بين مُحابِي الأسد، ويبقى هذا السيناريو ثابتاً، ولا يمكن استبعاده، خاصّة أنّ تاريخ تصفية "الرفاق الموالين" يعود إلى فترة مُبكّرة من أوائل ستينيات القرن الماضي، وسيكون من المُتعذّر والمملّ سرد تاريخ طويلٍ من القتل والتغييب، سيّما وأنّ الأسد (الأب) مارس الاغتيال المنظّم منذ بداية استلامه وزارة للدفاع، بغية حسم الصراعات داخلياً وخارجياً، مُستفيداً من رضى قوى المجتمع الدولي عن الأفعال التي نفّذها. أمّا نهاية عهده فشهدت خطوات عدّة لإخراج شخصياتٍ نافذة من السلطة تمهيداً لتوريث النجل الغرّ، أمثال علي دوبا وعلي حيدر، بينما حظي بنفوذٍ كبير من أشرف على تدريبه وإعداده للحكم، أمثال بهجت سليمان وغازي كنعان.
والواقع أنّ الاغتيال في سورية يعكس شرعية تتّصل بقابليتها للتعميم، بما يفترض أنّها معركة وطنية ضدّ العدوّ المتربّص، ولو كان تابعاً مقرّباً يجري تصويره مُغتصِباً، قتله فضيلة لا جريمة. وكي لا يتحوّل السرد مساراتٍ بلاغية ورطانات بلا طائل، وإن استعرنا تقابلاً شائعاً لممارسات عائلة الأسد، فلو أنصفت الأخيرة رجالاتها "الأخيار" لوضعت تماثيلَ شاهقة لهم في الساحات العامة، لكنّ كثيرين منهم حظوا بجنازات خجولة بعيداً عن الأضواء، وكأنّ موتهم يستأنف حياتهم السفلية المعتمة.
وليس استطراداً، ولكن اتكاءً على معطيات عديدة بيّنة، فإنّ قاعدة تصفية الشركاء هي القاعدة الذهبية التي منحت نظام الأسد الاستمرارية خمسة عقود، واستطاع الأسد (الابن)، بينما كانت التصفية بعديد أشكالها مدعاة تقاطع مع ضوابطه ومعاييره، إزاحة بعض كبار رجالاته من المشهد السياسي والأمني والاقتصادي، ليس بدايةً بخلع قريبه وشريكه رامي مخلوف عن عرش الاقتصاد السوري، مروراً بعزل اللواء علي مملوك، أحد الرجال القلائل الذين اُعتمد عليهم بثقةٍ كبيرة في بلاط الأسدَين، إذ جرى إبعاده عن رئاسة الأمن الوطني وتعيينه مستشاراً أمنياً، أيّ موظّفاً يُجلب فقط عند الطلب، ولن يكون آخرها ما تردّد أنه "اغتيال" (؟) المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية لونا الشبل، ومحاصرة زوجها، عمّار الساعاتي، الذي كان أحد أعمدة النظام بعدما خسر حظوته وكرسيّه في القيادة المركزية للحزب الحاكم.
من مقتضيات سقوط نظام الرعب الأسدي تفكيك البنى التي تشكّل الرافعة الأساسية له، ومنها شريحة "الأتباع" الذين شاركوه المكاسب
وليس لانعدامٍ أو خللٍ مُتعمّد في الموضوعية، بل من أجل الالتزام بالراهن الوصفي له، من الواجب الإشارة إلى أنّ مشاهد الاغتيالات التي نفّذها نظام الأسد يكتنفها غموضٌ مريبٌ وتشوبها معلومات مضلّلة وواهية، رغم وقوعها نهاراً وفي أماكن يُفترض أنها محصّنة أمنياً، كانفجار خلية إدارة الأزمة الشهير، ما دفع الكثير من المحللين إلى التشكيك بها، ولك أن تتخيّل مصير نظام الأسد اليوم، لو أنه لم يقم بكلّ الاغتيالات التي نفذها خلال حكمه، بينما يُمكن ربط هوسه السّقيم بـ"الأبدية" بهذه السياسة القمعية العقيمة، وكأنها ممرّ الأبهة السلطاني الوحيد ردا على أيّ تهديد لجدار حكمه الذي لم يسقط بعد، على اعتبار أنّ الاغتيال ليس مُجرّد حملات تخويف ممنهجة أو عملية غربلة واصطفاء سياسي، إنه شرٌّ وجودي إنْ جاز التعبير، وسلاحٌ إستراتيجي فتّاك يلجأ إليه نظام الأسد بوصفه مالكاً لقوة فائضة، يعتقد أنه من السذاجة ألا يستخدمها.
يُؤكّد الطرح السابق أنّ واحداً من أكبر الهواجس التي تقضّ مضجع نظام الأسد تلك المحورية التي تخصّ تابعيه الفاسدين، والتي تقتضي منه مزج المخاوف الوجودية بالحسابات الشاقة، وهي نابعة من الشعور الدائم بأنَّ الخطر الحقيقي مصدره كلّ من يتملّقه وينافقه، لذا تسيطر عليه حالة من التناقض المربك، بينما يحتفي احتفاء مَرَضَياً بشكليات منظومته العنفية وقشورها، وإلصاقها بكلّ مؤسّساته، ومنطوق وألفاظ "جلاوزته". والحال هكذا فإنه لا يمكن الجدال في حقيقة أنّ قنص أتباع الأسد تحوّل إلى مرضٍ وحاجة، أما المسكوت عنه بهذا القدر أو ذاك، فيؤكد أنّ نظام الأسد يُشبع شهوة الاستبداد بالإجرام، أما الكيفية فمتروكة للظروف، ولا يعلم أنه يأكل نفسه بنفسه، وليس هناك ما يمكن تسويغه سياسياً في هذا السلوك الشاذ سوى أنّه يستقيم مع تركيبته النفسية، أيضاً نشأته المُؤسِّسة لكوارثه وعجائبه التي لا تنتهي.