جلالة الملكة

09 نوفمبر 2023

الملكة رانيا في مقابلتها مع "سي إن إن" (24/10/2023/ سي إن إن)

+ الخط -

خلال أقلّ من أسبوعين، ظهرت الملكة رانيا مرّتين على شبكة سي. أن. أن. الأميركية. وفيهما كان حضور هذه السيدة، الأنيقة من دون بهرج أو تزيّد، مُبهراً في وضوحه وصلابته وتعبيره عن الرواية الأخرى التي لا يُراد لها أن تُسمع.

في وصف الصور على الأقلّ، نحن إزاء سيّدة شابّة تتحدّث الإنكليزية بطلاقة، وتبدو واثقةً من نفسها، ولكن بتواضع وترفّع. تمتلك منطقاً متماسكاً، لا ثغرات فيه، ولكن من دون استفزاز، وهذا أمرٌ نادر.

تتحدّث الملكة رانيا عن قصة الألم والدموع والهجرات القسرية المتتالية للشعب الفلسطيني منذ 75 عاماً. تُحاجج، وعن حقّ، بأن الصراع لم يبدأ في الأمس، وما "7 أكتوبر" سوى حلقة من سلسلة اللهب التي تزنّر خصر المنطقة، وتهدّد بانتشار الحريق فيها كلها، ما لم يقرّ الطرف الآخر بحقّ الفلسطينيين في دولةٍ مستقلة، ما لم يتفهّم حقَ الفلسطيني في الحياة والكرامة والأمل بالمستقبل، وقبل ذلك بأنه إنسانٌ لا يقل قيمةً عن سواه في هذا العالم، وأن عليه أن يتحرّر لا من الاحتلال وحسب، بل أيضا من الصورة النمطية التي حُبس فيها، فإذا هو إرهابي لأنه يدافع عن حقّه في الحياة، وفي أن يكون سيّداً على أرضه في بلادٍ سُلبت منه بالقوة، وتركته وحيداً في عراء الخذلان الكوني العميم والأليم.

وُلدت الملكة رانيا في الكويت لعائلة ميسورة، ودرست هناك في مدرسة بريطانية، والتحقت بالجامعة الأميركية في القاهرة، قبل أن تعود إلى الأردن، وتقترن بالأمير عبد الله بن الحسين قبل أن يصبح ملكاً، ولكن سيرة الرّفاه الذي عاشته لم تعطب العصب الحسّاس لديها إزاء الشعب الفلسطيني، فلم تنفصل عن ثقافة المنطقة ولا عن همومها وآمالها، كما يفعل كثيرون من خرّيجي المدارس الأجنبية والخاصة في بلادنا، بحيث تشعُر أنك أمام نُسخ مشوّهة من المتحاذقين، الاستشراقيين بعسفٍ في نظرتهم إلى تاريخ منطقتهم وحاضرها، بل حافظت الملكة على تلك العلاقة الحميمية التي تربطها بمجتمعها وثقافة منطقتها، وكان حفل زفاف نجلها الأمير الحسين مثالاً على نظرةٍ قارّة لديها بأن الانتماء للمنطقة والنهوض بها لا يكون بالقطيعة مع تاريخها وعاداتها وتقاليدها، بل بالتمسّك بما يمكن وصفُه بالهوية، وعصرنتها بدفعها إلى الأمام برفق الأمهات، لتكون في صدارة المشهد وجزءاً من العالم المعاصر، وهو ما حظي باحترام واسع لهذه المرأة الشابّة التي يمكنك أن تصادفها في أحد غاليريهات جبل اللويبدة في عمّان برفقة صديقاتها، أو في أحد مطاعم العاصمة الأردنية برفقة زوجها، الملك عبد الله، بدون حراسةٍ ظاهرةٍ على الأقل.

تقف الملكة رانيا حالياً في الخندق الأمامي والمتقدّم للدفاع عن القضية الفلسطينية. وبينما تتعرّض غزّة لحرب إبادة معلنة وغير مسبوقة في وحشيّتها تبدو نبرتها هادئة، ولكن بالغة الصلابة والوضوح في سرد الرواية المضادّة في مقابلتيها، مع كريستينا أمانبور ولاحقاً بيكي أندرسون، ما يفسّر تلك الحملة التي تُشنّ ضدها في إسرائيل، وعلى أعلى مستوى هناك.

لماذا حُصِر حقّ الدفاع عن النفس في جانب واحد، وهو إسرائيل، وحُرِم منه الفلسطينيون الذين يرزحون تحت نيْر أسوأ احتلال في التاريخ المعاصر؟ ومتى يستيقظ ضمير العالم؟ ولماذا هذا الاختزال المُخلّ للصراع والتنميط المسيء لأحد أطرافه، بحيث يُسمح للطرف الآخر بأن يقتل بلا حساب؟ وإذا ووجه باعتراضٍ يُتّهم قائله باللاسامية؟ علماً أنك عندما تكون مؤيداً للفلسطينيين لا يعني ذلك أنك لا سامي، وأن التهمة تُشهَر في وجوه المنتقدين، عندما يعجز المدافعون عن إسرائيل عن الدفاع عن تصرّفاتها. كيف للعالم أو للأطراف الفاعلة والكبيرة فيه أن يرفضوا وقفاً لإطلاق النار في غزّة؟ كيف لهم ألا يروا أن رفضهم هذا يتحوّل إلى رخصةٍ مفتوحة للقتل، وسبب في مقتل الآلاف من المدنيين؟ هذا يدلّ على قصر نظر، ناهيك عن كونه لاأخلاقياً.

تقول الملكة رانيا هذا وسواه الكثير. عن أولئك المدنيين الذين بلا حماية، عن الأطفال الذين يُقتلون بالآلاف في غزّة، وعن تلك الحالة النادرة التي قد تُصبح ظاهرة، وتتمثل في أولئك الأطفال الناجين الذين لم تعُد لهم عائلات كاملة على قيد الحياة على الإطلاق، لأن إسرائيل قتلتهم كلهم. ... تتحدّث بجرأةٍ وشجاعةٍ عن كونك تستطيع قتل المُحارب، لكنك لن تستطيع قتل القضية: امرأة شجاعة.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.