جزيرة لامبيدوزا وأزمات المنظومة العالمية المتصاعدة
تمثل الأزمة المستمرّة في جزيرة لامبيدوزا الإيطالية نموذجا عمليا للتحدّي الذي يواجه المنظومة العالمية اليوم، فالجزيرة التي هي أقرب جغرافيا إلى أفريقيا منها إلى أوروبا تشهد، منذ عقد مضى، سلسلة من الهجرات من القارّة الأفريقية باتجاه أوروبا نتيجة الاضطرابات السياسية والمالية المستمرّة في دول الجنوب الممتد من جنوب آسيا إلى أفريقيا إلى أميركا الجنوبية؛ فالجزيرة الإيطالية تشهد أزمة جديدة منذ أيام، بسبب وصول أعداد من المهاجرين من أفريقيا يبلغ ضعف عدد سكانها البالغ أربعة آلاف نسمة. رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، التي تقود حزبا يمينيا يعارض الهجرات من الجنوب، زارت الجزيرة قبل أيام ووصفت وصول اللاجئين إلى الجزيرة الصغيرة بالغزو، وطالبت الاتحاد الأوروبي بتحمّل مسؤولياته في التعاطي مع أزمة اللجوء. ثم جاءها الرد السريع من رئيس الوزراء الفرنسي الذي أعلن عن معارضة فرنسا استقبال المهاجرين الجدد.
تأتي زيارة ميلوني جزيرة لامبيدوزا بعد عشر سنوات من زيارة البابا فرنسيس لها في سياق مشابه، فقد زار راعي الكنيسة الكاثوليكية الجزيرة نفسها عام 2013، والتقى آنذاك مهاجرين من سورية والعراق ولبنان، ولكنه استحضر، على عكس ميلوني التي تقيم في روما على بعد أميال من مقر إقامته في الفاتيكان، الأسباب وراء هجرتهم من بلادهم ولم يصفهم غُزاة. بل على العكس، حمّل رأس الكنيسة الذي نشأ في أميركا الجنوبية الغرب مسؤولية ما يُجرى في العالم، ووجّه اللوم إلى ما أسماها ثقافة الراحة التي تنتشر في المجتمعات المتطوّرة قائلا: "ثقافة الراحة التي تجعلنا نفكّر في أنفسنا فقط، تجعلنا غير حسّاسين لصرخات الآخرين". وتابع في كلمة وجّهها إلى الصحافة: "وقعنا في سياق العولمة الجارية في لامبالاة عالمية، واعتدنا على تجاهل معاناة الآخرين. معاناة العالم لا تؤثر فينا، وكأننا نقول: هي لا تعنينا وليست من مسؤوليتنا!".
ليست مشكلة الهجرة، بطبيعة الحال، غربية وحسب، ولكنها تتطلب تغيرا في الثقافة السياسية العربية والعودة إلى تبنّي القيم والممارسات التي شكلت أسباب نهضة العرب عبر تاريخهم الطويل
يرتبط تجاهل القوى اليمينية الغربية معاناة شعوب دول الجنوب بثقافة نخبوية واسعة عابرة للمجتمعات، لا ترى علاقة مباشرة بين صمتها (وتجاهلها مصائب العالم) وتسارع قطار الأزمات، لكنه يرتبط قبل ذاك بمنظومة عالمية تحمل رؤية هرمية إلى شعوب العالم، وتساهم بتكريس النمو غير المتساوي بين دول الشمال والجنوب، من خلال التحكّم بالبنى الاقتصادية والسياسية، عبر السياسات المالية العالمية حينا، وباللجوء للتدخّل السياسي ودعم النخب المستعدّة لتقديم السياسات التي تحقق المصالح المالية للدول الكبرى على مصالح شعوبها حينا آخر. وعندما تفشل السياسات المالية والتدخّل السياسي بتحقيق المطلوب، تلجأ الدول الكبرى إلى التدخّل العسكري المباشر من دون تردّد، لمنع قيام أنظمة وطنية لا تقبل قواعد اللعبة الدولية المتحيّزة. إدارة العالم من منظار ضيق يتجاهل مصالح الدول النامية هي السبب المباشر لتتابع الأزمات الحادّة التي تزايدت خلال العقد الماضي، وبلغت تداعياتها كل من أوروبا وأميركا الشمالية، والتي تنعكس بصورة حادّة اليوم في موجات الهجرة المتتابعة من دول الجنوب، والتي تقدّر اليوم بملايين المهاجرين سنويا. تشكّل هذه الهجرات عبئا ثقيلا على المجتمعات الغربية، بسبب الأعداد الهائلة التي يصعب استيعابها أحيانا، ولكنها تشكل بالتأكيد صدمات وأعباء أكبر على المهاجرين أنفسهم، فالظروف التي يواجهونها والمخاطر التي يعرّضون أنفسهم وأبناءهم إليها تتجاوز بمئات المرّات أي تداعياتٍ تشهدها مجتمعات الشمال في أوروبا وأميركا الشمالية. السؤال الذي تتجاهله القيادات الغربية في سعيها إلى التعاطي مع التزايد الهائل في أعداد المهاجرين القادمين من الجنوب يتعلق بأسباب الهجرة. لماذا يهاجر كل هؤلاء رغم المخاطر الكبيرة التي تواجههم؟ تجاهل الغرب الأسباب التي تدفع الملايين إلى الهجرة من بلادهم خطأ قاتل، لأن تجاهل جذور الأزمات لا يؤدّي إلى حلول، بل إلى مزيد من الأزمات.
لا يمكن فهم الهجرات المتزايدة من دول الجنوب إلى الشمال إلا في ضوء السياسات العالمية التي تمارسها القوى الدولية الكبرى، أو السياسات المحلية التي تدعمها وتروّجها داخل الدول النامية، ومنها الدول العربية. وفي مقدّمة هذه السياسات الدولية سياسات الاستثمار والإقراض التي تديرها مؤسّستان دوليتان، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. أي جهد للنظر في أسباب الهجرات المتزايدة يجب أن يبدأ في سياسات صندوق النقد الدولي التي تولد تكلفة عالية بالنسبة للطبقات العاملة في بلدان الجنوب تحول بينهم والقدرة على العيش بكرامة وأمان، وتدفعهم إلى البحث عن مجتمع آمن لكسب لقمة عيش كريم وحماية أولادهم من الضياع والحرمان. وقد أظهرت دراساتٌ عديدةٌ العلاقة المباشرة بين السياسات التي يفرضها الصندوق على الدول النامية، وتراجع النمو الاقتصادي والزيادة المطّردة في معدّلات البطالة. وتظهر هذه الدراسات بالأرقام والدلائل تراجع الإنفاق الحكومي على الخدمات الأساسية في مجالي التعليم والصحة بسبب شروط الصندوق المفروضة على القروض، وتراجع النمو الاقتصادي بسبب التضخّم المالي الكبير الناجم عن عجز الدول عن تحقيق توازن مالي بسبب فوائد الديون المتراكمة. يدفع التراجع السريع في مستوى المعيشة القوى العاملة الماهرة إلى الهجرة إلى الدول التي تتوفّر فيها الفرص المناسبة للخبرات التي تملكها، ما يؤثر سلبا على قدرة المجتمعات النامية في زيادة قدراتها الإنتاجية والاقتصادية، وبالتالي القدرة على توفير فرص العمل المناسبة لخرّيجي الجامعات، وهذا يؤدي إلى تدهور كبير في الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
ستستمرّ الهجرات من دول الجنوب وتتزايد، طالما تجاهل الغرب جذور المشكلة، وتغافل عن الأسباب التي تدفع ملايين البشر للهجرة بعيدا عن بلدانهم الحرّة شكليا والمستعمرة عمليا
يرتبط المصدر الآخر للهجرات بالتدخل العسكري في الدول العربية، وما أصبح يُعرف اليوم بالشرق الأوسط الكبير الذي يمتد من المغرب إلى باكستان وأفغانستان. يتعلق التزايد الكبير في أعداد المهاجرين من أفغانستان والعراق وسورية واليمن إلى الدول الغربية بالتدخّلات العسكرية في هذه البلدان لفرض أنظمة سياسية تضع مصالح الدول المتدخّلة في المقام الأول، وتمنع قيام حكومات وطنية تقدّم مصالح شعوبها على المصالح الخارجية للدول النافذة. لعل أعلى مستويات الهجرة خلال العقد الماضي تلك التي قدمت من سورية والعراق، بسبب التدخلات العسكرية المباشرة والسعي إلى فرض منظومة سياسية تلائم المصالح الخارجية والتوازنات السياسية المفروضة دوليا، من دون اعتبار مصالح الشعوب المحلية، ومن دون السعي إلى دعم حلول تقدّم كرامة المواطنين وحقوقهم الإنسانية ومصالحهم المشروعة على المصالح الجيوسياسية للدول المتدخّلة.
ستستمرّ الهجرات من دول الجنوب وتتزايد، طالما تجاهل الغرب جذور المشكلة، وتغافل عن الأسباب التي تدفع ملايين البشر للهجرة بعيدا عن بلدانهم الحرّة شكليا والمستعمرة عمليا. ولن تتمكّن الدول الغربية من التعاطي مع المشكلة بالتركيز على الأعراض وتجاهل الأسباب، إلا عبر تخليها عن القيم السياسية التي كانت سببا في نهوضها من مجتمع الجهل والتخلف خلال القرون الوسطى إلى مجتمع العلم والتطور الإداري والتَقاني الحديث. ليست المشكلة، بطبيعة الحال، غربية وحسب، ولكنها تتطلب تغيرا في الثقافة السياسية العربية والعودة إلى تبنّي القيم والممارسات التي شكلت أسباب نهضة العرب عبر تاريخهم الطويل، قيم العلم والعدل والتسامح والحرية والمساواة واستشعار الإنسان لمسؤوليته في تحويل هذه القيم إلى سلوكياتٍ ومؤسّسات وممارسات، والعمل على مواجهة الفوضى والفساد الهرمية الاجتماعية المفرطة.