جدل الإنقاذ الوطني اليمني
أطلق كلّ من رئيس مجلس الشورى اليمني، رئيس الوزراء السابق أحمد عبيد بن دغر، ونائب رئيس مجلس النواب، عبد العزيز جباري، في الأول من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بياناً سياسياً، دعا إلى تشكيل تحالف إنقاذ وطني لإيقاف الحرب، وفتح حوار وطني يمني شامل. وألقت الدعوة بظلالها جدلاً يمنياً واسعاً بشأن توقيتها وأهدافها ومراميها، ما فتح المجال واسعاً لتساؤلاتٍ كثيرة تتعلق بهذه اللحظة اليمنية الأكثر تراجيدية. ولقي البيان سيلاً من النقد الحاد الذي لم يتوقف عند مناقشة الفكرة ومدى صوابيتها بقدر ما ذهب بعيداً في نقد السلوك السياسي لمن أصدراه، باعتبار موقعيهما السياسيين الكبيرين، وهو ما جعل الأمر يبدو أكثر حدّة في النقد مما يجب.
وفي العموم، يمكن تناول الأمر من أكثر من زاوية، في تقييم هذه الدعوة وكذا الحملة المناهضة لها معاً، للخروج بتصور واضح عن أهمية هذا الجدل الأول من نوعه، والذي ينطلق من صفوف قيادات في الشرعية اليمنية ذاتها، مستهدفاً خطوطاً حمراء مضروبة حول مواضيع معينة، لا يمكن الاقتراب منها، خصوصاً ما يتعلق بالتحالف، ما له وما عليه.
ومن هنا تأتي أهمية البيان، لتفهم حجم ردة الفعل عليه، على الرغم من أنّه لم يأتِ بجديد بخصوص قضايا كثيرة باتت معروفة ومكشوفة لدى اليمنيين الذين يرون أنّ التحالف العربي خرج عن أهدافه، وأنّ أجندات متصارعة هي التي ساهمت في تمكين جماعة الحوثي الانقلابية أكثر من غيرها، وأنّ ما جاء به البيان لم يعد خافياً على أحد. لكنّ الجديد في البيان موقع كلّ من الموقعين على البيان، رئيس مجلس شورى ونائب رئيس مجلس نواب، وهما شخصيتان معروفتان، ما جعل بيانهما يمثل صرخة كبيرة من داخل الشرعية، مع ملاحظات كثيرة في هذا الأمر، إذ يرى منتقدون كثيرون للرجلين أنهما قيادتان كبيرتان، وأنّ مجال عملهما إدارة (وقيادة) تحالف الإنقاذ الذي يدعوان إليه من خلال موقعيهما في رأس هرم الشرعية، وليس بصفتيهما الحزبيتين اللتين ذيّلا توقيعهما البيان بهما.
هناك من يرى أنّ بن دغر وجباري تصدّرا لهذه المهمة، منطلقين من حسابات ربما سياسية خاصة بهما، أكثر منها حسابات وطنية
الأمر الآخر، كان الأوْلى أن يكون لهذا البيان إطار واضح للعمل، ابتداء بإعلان موقف صريح وواضح من الشرعية، وأن يعلن صاحباه أيضاً موقفهما من المواقع السياسية التي يشغلانها، وما يترتب على هذه المواقع من امتيازات كبيرة، في لحظة يمنية عصيبة يعيشها المواطن اليمني، عدا عن المقاتلين المدافعين عن هذه الشرعية في الميدان، وما يعنيانها من انعدام إمكاناتٍ تصل إلى مرحلة الخذلان.
عدا عن ذلك، هناك من يرى أيضاً أنّ بن دغر وجباري تصدّرا لهذه المهمة، منطلقين من حسابات ربما سياسية خاصة بهما، أكثر منها حسابات وطنية، بالنظر إلى أنّ البيان كان ينبغي أن يمثل طيفاً طويلاً وعريضاً من الرافضين لسير الأزمة والحرب في اليمن، والمطالبين بتصحيح مسار التحالف والشرعية معاً، وهو ما دفع منتقدين عديدين إلى الحديث أنّ البيان لا يمثلهم، ليس لمعارضتهم ما ورد فيه، وإنّما لأنّ التوقيع عليه حُصر بشخصين فقط، وهو الذي يطالب بتشكيل تحالف إنقاذ وطني.
الأخطر في البيان كله، وهو ربما ما دفع كثيرين إلى نقده ونقد صاحبيه، أنّ البيان ظهر بشكل عاطفي جداً في حديثه عن السلام مع جماعة الحوثي التي تقول السردية اليمنية اليوم إن هذه الجماعة وقّعت، منذ خروجها من صعدة في العام 2014، أكثر من مائة معاهدة وصلح واتفاقية مع الدولة والقبائل والجماعات المحلية والجيش، وصولاً حتى توقيعها اتفاقيات برعاية أممية ودولية، كما هو حال اتفاقيات استوكهولم مثلاً وقبلها جنيف والكويت، لكنّ كلّ هذه لم يُطبّق منها شيء، ما يعني أنّ الحديث عن السلام سطحي واستهلاكي للغاية، ولا يستند على أيّ ضمانةٍ حقيقيةٍ يمكن التعويل عليها.
المعركة اليمنية اليوم، بقدر ما هي مصيرية ووجودية لليمنيين، فإنّها مصيرية ووجودية حتى للخليج ذاته
مع هذا، فإنّ جدلية الإنقاذ اليمني التي خرج بيان جباري بن دغر للدعوة إليه لم تعد مجرد حديث عابر، وإنّما غدت ظاهرة تكبر كلّ يوم، في وجه حالة السخط الشعبي، جرّاء مشكلاتٍ كثيرة، في مقدمتها طول أمد الحرب من دون حسم، عدا عن الانهيار الإقتصادي الكبير الذي ضرب العملة اليمنية والأسعار، ما جعل الناس تعيش أوضاعاً مأساوية جداً، تؤثر على المواطن البسيط الذي فقد كلّ مصادر عيشه من راتب أو عمل حر، أو حتى منظمات دولية كانت تقدّم لهم الفتات من المعونات الإنسانية.
وللعودة إلى جذر المشكلة اليوم، وهي الخروج من هذه المأزق اليمني الكبير، فإنّ دعوة الإنقاذ الوطني اليوم صارت واقعاً ومطلباً حقيقياً لجلّ القوى الوطنية اليمنية والشعبية أيضاً، وإنّ هذا المطلب يجب أن تفهمه جميع القوى السياسية اليمنية، وكذلك القوى الإقليمية، ممثلة بالسعودية تحديداً، أنّ الحرب من دون أفق واضح، تمثل كارثة حقيقة لليمنيين، الذين يرون أنّ قرارهم السيادي ليس في أيديهم، وأنّ وطنهم يتمزّق وينزف كلّ يوم، من دون أن يكون لتضحياتهم الكبيرة والعظيمة أي ثمن، في ظل أنّ القرار الوطني لم يعد بيدهم. وليس هذا فحسب، وإنما يرى الجميع اليوم أنّ اليمن بحاجة ماسّة وملحّة لحالة إنقاذ يضطلع بها كوكبة من اليمنيين غير المنغمسين بمصالح هذه الحرب وتلوثاتها التي أصابت بعضاً من القيادات، والتي غدت ترى أنّ استمرار الوضع يضمن استمرار مصالحها غير المشروعة هذه، وعلى حساب المصلحة الوطنية العليا، وعلى حساب استلاب القرار الوطني اليمني.
وختاماً، المعركة اليمنية اليوم، بقدر ما هي مصيرية ووجودية لليمنيين، فإنّها مصيرية ووجودية حتى للخليج ذاته. وعلى الأشقاء في دوله أن يعوا هذه الحقيقة المغيبة عنهم ربما. واليمنيون في حاجة ملحّة لقيادات وطنية حقيقية غير مرتبطة بالاستقطابات الخليجية للنخبة اليمنية، تلك الاستقطابات التي لا تخدم سوى المشروع الإيراني المتمدّد في المنطقة، والذي لم يعد أمامه من عقبة سوى معركة اليمن التي استعصت عليه، ما يتطلب مكاشفة حقيقية بين اليمنيين والأشقاء في الخليج أنّ هذه المعركة هي آخر معاركهم جميعاً، وأنّ مصير المشروع الإيراني ستحدّده معركة اليمن، وليس معاركهم الدونكيشوتية مع إيران في بيروت وغيرها من مناطق غدت اليوم أشبه بمناطق إيرانية بحتة في العراق وسورية ولبنان.