جامعة النجاح .. نحو حياة جامعية آمنة
أحسن صنعًا مجلس أمناء جامعة النجاح الذي يرأسه منيب المصري، ويضم شخصيات ورموزا أكاديمية واجتماعية، عندما تدارك الوضع المقلق في الجامعة، الناتج من قمع أجهزة أمن الجامعة تجمّعين احتجاجيين داخل حرمها خلال أسبوع، في الرابع والثامن عشر من يونيو/ حزيران الحالي، على نحوٍ أدّى إلى إصابة طلاب وطالبات وصحافيين، إصابات بعضهم بالغة. ولم تفلح إدارة الجامعة في تدارك الوضع، وانحازت إلى أجهزة الأمن وروايتها، ففصلت عشرة من الطلاب المتهمين بافتعال الاضطرابات، فأعلن الطلاب إضرابًا مفتوحًا، وأعلنوا عن مطلبهم الرئيس، المتمثّل في حقهم بحياة جامعية آمنة، وضمان حرية الرأي والتعبير، وإعادة الطلاب المفصولين، ومتابعة علاج المتضرّرين منهم، وتقديم الاعتذار لهم. ولم تفلح محاولات إدارة الجامعة بالالتفاف على مطالبهم، وإجهاض إضرابهم عبر إعلانها استبدال عقوبة الإنذار بالفصل. ولو لم يتدخّل مجلس الأمناء بتأليف لجنة تحقيق يرأسها أحد أعضائه، وهو الأكاديمي عمّار الدويك، لدخلت الجامعة والمجتمع المحلي في وضعٍ لا يستفيد من إشعال نيرانه إلا العدو الصهيوني المتربص بالمؤسسات الوطنية، والساعي إلى تفتيتها وإضعافها.
إعفاء مدير أمن الجامعة من وظيفته، وإنهاء خدمات ستة من موظفي الأمن، وإحالة 16 آخرين إلى لجان تأديبية
أنجزت لجنة التحقيق عملها بسرعةٍ وشفافيةٍ ونزاهة، بعدما استمعت إلى 27 شهادة، وشاهدَت 40 شريطًا مسجلًا، وراجعت كاميرات المراقبة في أرجاء الجامعة، وأعلنت عن قراراتٍ حاسمةٍ أبرزها تقديم الاعتذار للطلبة وأُسرهم، بعد إعلانها أنه لم يتبيّن لديها تورّط الطلبة بأعمال العنف، أو محاولتهم اقتحام الجامعة بالقوة، نافية بذلك الرواية التي ردّدتها الأجهزة الأمنية، كما أكّدت أن "الأحداث المؤسفة والسلوكيات التي بدرت عن بعض موظفي الأمن لا تعكس سياسات وتوجهات الجامعة". وتبعًا لذلك، قرّرت إعفاء مدير أمن الجامعة من وظيفته، وإنهاء خدمات ستة من موظفي الأمن، وإحالة 16 آخرين إلى لجان تأديبية، إذ "إن أمن الجامعة أظهر سلوكًا عنيفًا جدًا في مواجهة الطلاب لم يكن مبرّرًا". ولتلافي ذلك في المستقبل، قرّرت اللجنة إعادة هيكلة دائرة الأمن في مدة لا تتجاوز أسبوعين، وإلحاقها بمساعد الرئيس للشؤون الإدارية. ويبدو أن الإجابة عن سؤال بشأن من كانت تتلقى منه تعليماتها، جاءت إجابته في قرارها بمراسلة "وزارة المالية للتأكّد من عدم وجود ازدواجية في دائرة الأمن"، الأمر الذي يعكس الخوف والقلق من ارتباط موظفي أمن الجامعة بأجهزة أمنية وإدارية ضمن السلطة الفلسطينية، وذلك حرصًا منها على ضمان استقلالية الجامعة مستقبلًا. وفي الوقت ذاته، أكد مجلس الأمناء على إجراء انتخابات مجلس الطلبة دوريًا في نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام.
يتبادر إلى الذهن، بعد هذه القرارات، أن فتيل الأزمة قد نُزع، وأن مجلس أمناء جامعة النجاح قد أعادها إلى مسارها الأكاديمي المميّز، وإلى دورها المجتمعي الرائد، وهو القرار الذي لقي تأييدًا من الكتل الطلابية، بمختلف توجهاتها السياسية، بما فيها كتلة الشبيبة الفتحاوية التي وقفت مع الإضراب بعد الحوادث الأخيرة، كما لقي ترحيبًا واسعًا من المجتمع المحلي. لكن اللافت كان تداعيات ذلك في بعض أوساط حركة فتح، إذ قدّم عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، توفيق الطيراوي، استقالته من موقعه مفوضًا للمنظمات الشعبية للرئيس محمود عباس، وهو الموقع الذي يتضمّن الإشراف على النقابات، بما فيها انتخابات الحركة الطلابية، ولم يعلن الطيراوي سبب استقالته، وما إذا كانت احتجاجًا على تصرّفات الأجهزة الأمنية وتدخلاتها، أم احتجاجًا على قرارات مجلس أمناء الجامعة.
شكّلت قرارات مجلس أمناء جامعة النجاح انتصارًا للجميع بانتماءاتهم المتعدّدة، وانحيازًا لقيم الحرية والوحدة والعدالة والديمقراطية
من الواضح أن فتيل الأزمة لم يُنزع تمامًا، وأن تدخلات الأجهزة الأمنية ومراكز القوى ستستمر بأشكال مختلفة. وقد عبّر عن ذلك بيان صادر عن إقليم حركة فتح، اتهم مجلس أمناء الجامعة بأنه "خضع لابتزاز حركة حماس، وأن هذه القرارات قد عالجت آثار الأزمة، ولكنها لم تعالج جذورها"، مكرّرًا اتهام قيادة حركة حماس بافتعال الأزمة. ويبدو من سياق هذا البيان أن ثمّة جهات متنفذة لا تزال غير قادرة على استيعاب دروس الماضي، ولا تزال مقتنعة بأنها عبر أدوات السلطة المتاحة لها واستئثارها بها تستطيع أن تسيطر على مقاليد الأمور، وهو وهم لطالما تملّك قامعي الحراكات الشعبية.
رحبّت الكتل اليسارية في الجامعة بقرارات مجلس الأمناء، كما أشادت بها حركة حماس. ومن نافل القول إن قيم الحرية وتداول السلطة والديمقراطية لا تتجزأ، ومن ثمّ فإن من يطالب بإجراء الانتخابات الرئاسية التشريعية، وينتقد السلطة الفلسطينية لنكوصها عن ذلك، ومن ينخرط في انتخابات الجامعات في الضفة الغربية ويساهم في الانتخابات البلدية فيها، عليه أن يسمح بإجراء الانتخابات في البلديات والجامعات في قطاع غزة، وأن يدرك أن الحجّة التي يردّدها بعض قادته حول سبب هذا المنع، وهي الخوف من نزاع بين أنصار فتح وأنصار محمد دحلان، واهيةٌ لا تقنع عاقلًا، وتقدّم مبرّرًا لأي عمليات قمع ومصادرة للرأي في الضفة الغربية.
شكّلت قرارات مجلس أمناء جامعة النجاح انتصارًا للجميع بانتماءاتهم المتعدّدة، وانحيازًا لقيم الحرية والوحدة والعدالة والديمقراطية، كما أن من شأن الالتزام بها إتاحة عودة روح الحوار والتعاون والنضال المشترك بين مختلف الكتل الطلابية بعيدًا عن الضغوط والتدخلات الأمنية، وهي انعكاسٌ لحالة الوعي المجتمعي الرافض للممارسات التسلطية والقمعية، والاعتداء على الحرّيات العامة، والتغوّل على المؤسسات الوطنية، وتعبير واعٍ من نخبة مجتمعية وأكاديمية متميزة لمثل هذه الممارسات التي تعد عقبةً أمام التصدّي الجمعي للاحتلال الصهيوني في فلسطين.