جارت عليهم الجغرافيا وخذلهم التاريخ
المشاهد الصادمة المبثوثة أولاً بأول من إقليم ناغورنو كاراباخ، الخاصة بهجرة أو تهجير عشرات الآلاف من الأرمن المغلوبين على أمرهم، أثارت لواعج كثيرة في النفوس المفعمة بالأسى المقيم جيلاً بعد جيل، وبعثت ذكرياتٍ مؤلمة، وخيبة أمل حارقة، ليس فقط لدى أبناء هذه الأمة المشتتة في كل البقاع، وإنما أيضاً لدى الشعوب التي مرّت بتجربة اللجوء بالأمس غير البعيد، لما تنطوي عليه حالات الاقتلاع من الديار بالقوة من آلام مبرّحة، وما تجرّه من مضاعفاتٍ كارثية طويلة المدى، على جموعٍ بشرية فقدت، بين عشيةٍ وضحاها، كل شيء، الأرض والممتلكات والكرامة الإنسانية، وآلت إلى عبء أمني وسكاني مُهمّش في دول الجوار.
وأحسب أن أشد من تعاطف بصمت ثقيل مع هؤلاء المقهورين، وأكثر من رأى في هذه المشاهد الأرمنية المحزنة بعضاً من صور أهله وذويه، المشرّدين منذ عشرات السنين، كان الفلسطينيون قبل غيرهم من شعوب هذه المنطقة، التي شهدت الملايين من ناسها الفقراء والمعدمين، حروباً وصراعات داخلية دامية، أخرجتهم من ديارهم موجة إثر أخرى، وأفقدتهم موارد رزقهم الشحيحة، سيما في بلاد المشرق العربي، بل وقذفت آلافا منهم عبر البحار إلى بلاد بعيدة، إلى الحد الذي صار فيه هؤلاء المقتلعون "أرمن الشرق الأوسط الجدد"، تشبّها بما انتهى إليه حال أكثرية هذه الإثنية التي فرّت من بلادها قبل قرن.
وقد يكون الأكراد الموزّعون على التخوم، وبين الحدود في هذه المنطقة، ثاني شعب راقب تحوّلات المشهد الأرمني الجاري فصولاً، بحسٍّ طافح بالالتياع والخذلان، ورأى في هذه المأساة كذلك بعضاً من مأساته المديدة، خصوصا أنه صاحب قومية كبيرة، قطّعت أوصالها قوىً استعمارية غاشمة، وغيّبت هويتها السياسية، وحرمتها من الحقّ في الحرية والاستقلال، أسوة بغيرهم من العرب والترك والفرس، شركاء الأكراد في الماضي التليد، وخصومهم في الحاضر النازف بدم غزير، عبر خطوط مفتعلة وتضاريس معقّدة، ومنزلقات التعصّب القومي المتبادل، ناهيك عن الأحقاد والمزاعم والأطماع.
لسنا اليوم في معرض محاكمة تاريخية لمصائر ثلاثة شعوب مرّت بثلاث تجارب متشابهة، ولا بصدد نكء الجراح أو استرجاع ما فات من أخطاء أسهمت في هذا المآل المتماثل لجهة التهجير بالإكراه على الأقل، إلا أنه يمكن القول إن لعنة الجغرافيا ودكتاتوريتها الغاشمة قد خذلتا الأرمن والأكراد من قبل، والفلسطينيين من بعد، حيث جاور العرقان الأولان، من دون اختيارهم، ثلاثة أعراق (العرب والترك والفرس) لدى كل واحد منهم امتدادات جغرافية أوسع، ادّعاءات أكبر، هواجس أعمق، وعصبيات قومية أشد، مكّنتهم في وقت مبكر من لعبة الأمم، بعد الحرب العالمية الأولى، من انتزاع هويّات قُطرية خاصة، وكيانات شبه مستقلّة، فيما خذلت الجغرافيا الجائرة، والاسترضاءات المتبادلة بين المنتصرين، الأمة الكردية من حقّها الطبيعي في الحرية والوحدة والاستقلال.
وبالقدر الذي عملت فيه الجغرافيا بقانونها الذي لا يرحم، عمل التاريخ بكل مكره، خصوصا في حقبته الكولونيالية، عمْلته السوداء بحقّ الشعوب الثلاثة آنفة الذكر، حيث كان الأرمن أول من دفع ثمن حرب الأمم، قتلاً وتهجيراً في أربع جهات الأرض، ورافقهم الأكراد على الدرب ذاته، حرماناً ومطارداتٍ حتى على اللغة والثقافة والعَلَم. أما الفلسطينيون الذين دفعوا كل تلك الأثمان بالجملة، جرّاء استضعافهم وإنكار أبسط حقوقهم، فقد تم تهجيرهم بالقوة الجبرية، إلغاء هويتهم الوطنية، وشطبهم من المعادلة الإقليمية، فشكّلوا بذلك الضلع الأصغر، ولكن الأقدح خسارة، من أضلاع مثلث هذه المأساة المشتركة بين إخوة المصائر المضيّعة، والعذابات السياسية والإنسانية المتطابقة بدرجات متفاوتة الشدّة، وهو أمر يمكن تحسّسه في كل هذا التضامن العاطفي مع شركاء ضحايا المحنة الإنسانية الواحدة.
ليس في وسع المرء تجاهل آلام شعوب وأقوام أخرى في هذه الديار التي كابدت، على هذا النحو أو ذاك، ما كابده ضحايا المثلث الأرمني الكردي الفلسطيني سيئ الطالع، ولا أن يخفّف من حدّة عذابات كل من عبر فصول محنة الاقتلاع، فقد شهد العراقيون والسوريون، وربما اليمنيون والسودانيون وغيرهم، والحقّ أنهم ما زالوا يشهدون ذلك، ألواناً مشابهة من التقتيل والتهجير والترويع، وما إلى ذلك من فظائع مرّ بها الفلسطينيون خصوصا، إلا أن أصحاب مثلث النكبات الكبرى هم الراسخون في الوجع الإنساني السياسي المقيم ما أقام كل هذا الاختلال في الموازين، التي يبدو أنها تتفاقم أكثر فأكثر، وتتعمّق شيئاً فشيئاً، جرّاء تواصل الخلل على كل صعيد.