ثورة يناير .. كيف نفهم الهزيمة؟
الهزيمة ليست نهاية التاريخ، ما حدث في 25 يناير/ كانون الثاني 2011 أكبر من أن ينتهي في عشر سنوات، لا نحتاج للتدليل على ذلك، فالنظام يدلل، عبد الفتاح السيسي يدلل، آلته القمعية، بجناحيها الأمني والإعلامي، لا يكفّون عن تذكيرنا بيناير، وخطر يناير، ورعبهم من تكرار يناير. التناحر والتراشق، وإعادة تدوير ما حدث بين أجنحة الثورة وبعضهم بعضا، دليل على امتداد التجرية، ما زلنا رهن المكابدة، قد لا يكون من الحكمة محاولة استعادة مشاهد بعينها، أو الوقوف عند لحظةٍ بعينها، نحتاج إلى التجاوز، والتصرّف وفق معطياتٍ جديدة. الحياة تتحرّك، لكن ليس معنى ذلك أن خط يناير انقطع، ما زال الخط ممتدا، على اعوجاجه، وما زالت "ثورة" تخايل أطرافها، وما زالت راية، تشبه راية صلاح جاهين في قصيدته الشهيرة "أنغام سبتمبرية" (دلوقتي نقدر نفحص الصورة/ أنظر تلاقي الراية منشورة/ متمزعة لكن ما زالت فوق/ بتصارع الريح اللي مسعورة).
كانت ثورة يناير مفاجئة للجميع، حتى لمن قاموا بها، مفاجئةً للنظام الذي لم يتوقعها، ولم يخطّط للاستعداد لها، كما تدّعي بعض أجنحته الآن على أجنحة أخرى، مفاجئة للإسلاميين الذين لم يخطّطوا لها، ولم يدعوا إليها، ولم يشاركوا فيها، إلا متأخرا، لكنهم كانوا أول من استفاد منها، وأول من دفع فاتورتها، مفاجئة للقوى الإقليمية التي تدعم حسني مبارك، مفاجئة للقوى الدولية وأوّلها الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تخطط لها، لكنها استفادت منها، كما أنها لم تخطط للانقلاب عليها، لكنها أيضا استفادت منه. .. هذه البديهيات تعلمها، الآن، نخب كل فريق، خصوصا العسكر والإسلاميين، لكنهم لا يواجهون جماهيرهم بها لأنها تدينهم، فإذا لم يكن ثمّة مؤامرة كونية، فكيف حدث ما حدث؟ هنا يأتي حديث المسؤولية الجاد، بديلا عن مشجب المؤامرة الهالك والمستهلك.
كانت الثورة اختبارا حقيقيا للأطراف كافة، قدراتهم ومعلوماتهم. من هنا، كانت صدمة الجميع في الجميع، الدولة وحدها كانت تمتلك المعلومة، ومن ثم السلطة، ولذلك كانت الطرف الأهدأ والأقدر، على هزاله، في الاحتفاظ بسلطته. من يقول إن الإخوان المسلمين، بتاريخهم الاجتماعي والسياسي، وحضورهم، من الإسكندرية إلى أسوان، في المساجد، والبرلمان، والنقابات، والجمعيات الخيرية. من يقول إن هذه هي إمكاناتهم، من يتصوّر أن هذا هو خطابهم، من يتخيّل أن هذه هي كوادرهم؟ مفهوم أن تكون المزايدة والمظلومية جزءا من خطاب المعارضة، لكن من يقول أن يستمر ذلك وهم في السلطة، وأن يطرح الإخوان رئيسا ونوابا ووزراء وإعلاميين لا يصلحون إلا للسخرية منهم، ولا يمكن تناولهم إلا في برنامج باسم يوسف؟ من يقول إن هذه هي التيارات المدنية، بكل ما تحمله من سياسيين ومفكرين وحقوقيين ونشطاء، انعدام التأثير في القواعد التي تتبنّى أفكارهم، انعدام القدرة على التفاوض في كل المراحل، مع المجلس العسكري بعد مبارك، مع الإخوان وهم في السلطة، مع العسكر بعد إزاحة الإخوان، حتى وهم جزء من السلطة، من المشهد، من الخناقة، وزراء في الحكومة، لا وجود لهم، ولا تأثير، ولا إمكانات؟ من يقول إن هذا هو المستوى السياسي لشباب الثورة، الذين حلموا بها، وخططوا لها، وكافحوا سبع سنوات من أجلها، ومات بعضهم في ميادينها، وعاش آخرون ليتعالوا على كل ما هو سياسي، ويرفضونه، ويتهرّبون منه، ويجرمونه، وينهزمون نفسيا أمام جيل السبعينيات، ويسلمونه مفاتيح "التنافس على السلطة"، ويتفرّغون للمزايدة على بعضهم بعضا، ويصبح أقصى طموحهم تأسيس ائتلاف أو حزب، أو الظهور في برنامج، بدلا من اختيار مرشح "منهم"، والتقدم من دون خوف لحكم البلاد.
يحمل المستقبل احتمالاتٍ كثيرة، سوف تأتي فرصة أخرى، بثورة أو بغيرها، المهم أن تجد من يستغلها. يخلو المشهد الآن من فصيل سياسي يمكن المراهنة عليه، لا سجناء الداخل، ولا أراجوزات الخارج، لكنه لا يخلو من محاولات أصحاب التجربة "الأصليين"، أوْلى بهم الآن أن يغادروا استعدادهم للموت من أجل فكرتهم إلى قدرتهم على الحياة من أجلها، وهذا أصعب.