ثورة الفلاحين في أوروبا
يتحرّك المزارعون الأوروبيون منذ أسابيع ضد الحكومات، ويحاصرون بعض العواصم، ما يوحي بأن أوروبا تواجه احتمال ثورة فلاحين، بعد أعوامٍ من الحركات الاحتجاجية في عموم دول القارّة، وخصوصا على مستوى دول الاتحاد الأوروبي. وتتمثّل الأزمة في التشريعات القاسية من أجل إحداث نقلة جذرية على طريق إنتاج زراعي ذي مواصفاتٍ بيئية، وعلى أثر ارتفاعات متواصلة في أسعار الوقود والأسمدة، وتنامي التنافس في الأسواق العالمية. وكان النصف الثاني من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، قد شهد أوسع حراك احتجاجي في باريس وبرلين، وعدة مدن كبرى في فرنسا وألمانيا، قام بها عشرات آلاف الفلاحين. وأبرز مظاهر الحراك الفلاحي فرض حصار بالجرّارات، وقطع الطرق الرئيسية لمنع دخول المنتوجات الزراعية، وعرقلة السير. وبعد حوالي أسبوعين من المظاهرات في عموم ألمانيا، انتهت برضوخ حكومة المستشار أولاف شولتز، تحرّك الفلاحون الفرنسيون من أجل الضغط على رئيس الحكومة الجديد غابريال أتال للحصول على تنازلاتٍ شبيهةٍ بتلك التي انتزعها نظراؤهم الألمان. وجاء الحراك الفرنسي شاملا من شمال فرنسا إلى جنوبها، ما يؤشّر إلى أن الأزمة تجاوزت البعد المطلبي إلى رفض السياسات الرسمية والموازنات والمخطّطات المرصودة للأعوام المقبلة. وظهر واضحا أن هذه الأزمة سوف تشكّل التحدي الأكبر للحكومة الفرنسية الجديدة، وللرئيس إيمانويل ماكرون، الذي يمارس سياسة الهروب إلى الأمام، وخصوصا أنها تحظى بتأييد شعبي واسع.
وفي الآونة الأخيرة تمدّدت التحرّكات الاحتجاجية إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، مع حدوث مظاهرات في بولندا ورومانيا وسلوفاكيا والمجر وبلغاريا، حيث يشكو الفلاحون من المنافسة غير العادلة من الحبوب ذات الأسعار المخفضة القادمة من أوكرانيا. ويطالب الفلاحون في كل تحرّك احتجاجي بتخفيض أسعار الوقود والأسمدة، وتقديم تسهيلاتٍ على مستوى الضرائب العالية، واتخاذ إجراءات حمائية لدعم المنتوجات المحلية التي تواجه منافسه كبيرة من داخل أوروبا وخارجها.
وهناك ما ترضخ له الحكومات، كخفض أسعار الوقود والأسمدة، وما لا يمكن لها أن تقدّم تنازلات بشأنه، وهذا يتعلق بالتخطيط الزراعي على مستوى الاتحاد الأوروبي ككل، الذي يرى المزارعون في كل بلدٍ أنه أدّى إلى إلحاق ضرر كبير بالزراعة المحلية. وهو ما وحّد الحركة الاحتجاجية ضد سياسات المفوضية الأوروبية، وبات المزارعون الأوروبيون يتقاسمون المخاوف نفسها بشأن ما يعتبرونها قراراتٍ غير عادلة وغير متوقعة من الحكومات، بشأن الإصلاح الزراعي، ويلتقون عند رفض التشريعات التي أقرّها الاتحاد الأوروبي لتنظيم الزراعة في ما تُعرف بـ"الصفقة الخضراء"، التي أطلقها الاتحاد في 2019، وهي تلزم الدول الأعضاء بالتحوّل البيئي، وتحديد أهدافٍ للحدّ من استخدام المبيدات الحشرية، وتطوير الزراعة العضوية، وحماية التنوع البيولوجي.
ووسط هذه الأزمة التي تتفاقم بسرعة، تتعرّض الحكومات الأوروبية لضغوط من أجل زيادة عائدات الضرائب، أو خفض الإنفاق لسدّ فجوة كبيرة في الميزانية. وأثارت احتجاجات الفلاحين في جميع أنحاء أوروبا نقاشاً بشأن مدى استغلال غضب الفلاحين لصالح أحزاب اليمين المتطرّف، خصوصا حزبي "البديل من أجل ألمانيا" و"التجمّع الوطني" في فرنسا. ومع بداية حملة انتخابات البرلمان الأوروبي المقرّرة في يونيو/ حزيران المقبل، تفيد استطلاعات الرأي بأن التحالف بين المزارعين والشعبويين يساعد في زيادة جاذبية الأحزاب اليمينية المتطرّفة، بين ما يقرب من نحو عشرة ملايين فلاح في الاتحاد الأوروبي. ويشكل ذلك عامل خطورة كون الأحزاب اليمينية المتطرّفة باتت في المرتبة الأولى في تسع دول في الاتحاد الأوروبي، وزادت في الأعوام الأخيرة، بشكل كبير، عدد مقاعدها في البرلمان الأوروبي. ويتوافق ذلك مع استطلاع رأي حصلت بموجبه "مجموعة الهوية والديمقراطية اليمينية" على مقاعد لتُصبح ثالث أكبر مجموعة سياسية في البرلمان الأوروبي.