ثلج ودم وقنّب هندي

01 فبراير 2022
+ الخط -

بعد طول ترقب وانتظار مشوبيْن بالشوق والرجاء، وعلى نحو ما توقعته الأرصاد الجوية سلفاً، فتح الأردنيون عيونهم في الأسبوع الماضي، أسوة بغيرهم شرق المتوسط، على رداءٍ شديد البياض، غمر المنازل والشوارع والحقول، لأول مرة منذ عدة أعوام، أسعد قدومه الأطفال، وأشاع بهجة في نفوس الكبار المستبشرين بمجيء صيف وافر المياه، لبلدٍ غني بناسه، لكنه شحيح الموارد الطبيعية، وأهمها الذي "جعلنا منه كل شيء حي".
وفيما كُنتُ، يومها، أتفقد الوضع في الخارج، وأنفض الثلوج عن أوراق الشجيرات في الحديقة المنزلية الصغيرة، وقد أثقلها المعطف الأبيض، وأمال فيه الأغصان، أخبرتني زوجتي، وهي تستفظع ما علمت به للتوّ، وتستهول حدوثه في ذلك الفجر القارس، إنها قرأت على شريط الأخبار المتحرّك أسفل شاشة التلفزيون أن 27 قتيلاً من المهرّبين سقطوا على الحدود الشمالية، الأمر الذي جعلني أعتقد، للوهلة الأولى، أن السيدة تتحدّث عن واقعة جرت على الحدود الكولومبية، أو ربما المكسيكية، حيث تتموضع مافيات تجار المخدّرات منذ عقود طوال.
لم يمر سوى وقت ضئيل، حتى اتضح لي أن هذه الواقعة جرت فجر ذلك اليوم الثلجي العاصف على الحدود الأردنية الشمالية التي شهدت، قبل أسبوع واحد من تاريخه، حادثة مماثلة، ذهب ضحيتها ضابط وجنديان أردنيان. وما هي إلا سويعات، حتى راحت المعلومات تتوارد من المصادر الأمنية، عما يشبه سيلاً متدفقاً من محاولات تهريبٍ مشابهة، ومتواصلة بلا انقطاع، بلغ عددها في الشهر المنصرم فقط أربع محاولات فاشلة، فيما أخذت الرواية الرسمية تقدّم، بعد ذلك، الإحصائيات، وتتحدّث عن مئات العمليات التي جرت خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وتؤكد أنها قد احتوت ذلك الطوفان وسط تكتم شديد.
إذاً، نحن اليوم أمام حدث كبير ولا مثيل له في تاريخ عمليات التهريب، لا في هذه المنطقة ولا حتى في أميركا الجنوبية، حيث عتاة المهرّبين وأباطرته المشهورين، وذلك قياساً بعدد القتلى في ضربةٍ واحدة، وبكميات البضاعة المصادرة، وبصرامة التصدّي الحازم لتجّار السموم السفلة، وفق قواعد اشتباك جديدة، أملتها خسارة الواقعة السابقة، قواعد من شأنها ردع الشبكة التي تشي بنفسها عن نفسها، وتتحدّث بلا رطانةٍ عن هوية الواقفين خلفها، خصوصا وأن الأردن كشف، لأول مرة أيضاً، أنه أنذر وزير الدفاع السوري في لقاء مغلق، بضرورة وقف مثل هذه الأفعال الشريرة، وها هو اليوم يكرّر الإنذار علناً، في سابقةٍ غير مسبوقة.
وأحسب أن هذه الحادثة، بحصيلتها الثقيلة، كانت أكبر من عملية تهريبٍ اعتيادية، تجري عبر الحدود بين سائر الدول المتجاورة، وأنها كانت ذات دلالة أمنية خطيرة، تفوح منها رائحة سياسية كريهة، سيما وأنها أتت، مع سابقاتها، من بلدٍ مفكّك، بات مصنفاً أكبر دولة منتجة ومصدّرة للمخدّرات، بعد أن التحقت بها منطقة البقاع اللبناني، حيث حقول القنّب الهندي ذائعة الصيت (وهو أب مادة الحشيش والمارغوانا)، وتأسّست تحت مسمّى حلف الأقليات في المشرق العربي، فدرالية الكبتاغون الممتدّة على جانبي الحدود السورية اللبنانية.
لكن ما كان لافتاً، عقب هذه المقتلة لعدد كبير من المهرّبين في الشبكة شبه النظامية، ليس ذلك الصمت المجلّل بالخزي من جانب أربابها في فيدرالية الكبتاغون آنفة الذكر، وإنما هو هذا الإمعان الشديد، تحت شتى الظروف وفي كل الأوقات، على متابعة هذا النهج المدمر للأوطان والإنسان، حتى وهم يسعون إلى أدنى بادرة انفتاح سياسي أو تجاري مع جوارهم، سيما الأردن، فضلاً عن ترقب العودة إلى جامعة الدول العربية، أو ما يسميه الشبّيحة، هنا وهناك، "عودة العرب إلى دمشق"، الأمر الذي يشير إلى استفحال حالة التفكك السلطوي، ويعزّز الاعتقاد أن الوضع الراهن بات يحاكي "حارة كل من إيدو إلو".
غير أن ما يثير الخيال، أكثر من كل ما سبق عرضه، ما الذي سيقوله أرباب الشبكة في دمشق وضاحية بيروت لذوي هذه المقتلة، عندما يعودون بجثث أبنائهم إلى مساقط رؤوسهم، هل سيهنئونهم باستشهاد فلذات القلوب ذوداً عن قلب العروبة النابض، وإسقاطاً للمؤامرة الكونية إيّاها؟ وما الذي سيبرّر معمّم لبناني لأم ثكلى، وهو يسلّمها أشلاء بكرها، هل سيزعم أن الفقيد قضى نحبه دفاعاً عن العتبات ضد الجماعات التكفيرية؟ وإذا ما علمت المفجوعة أن قرّة عينها سقط على الحدود مع الأردن، ثم سألته لماذا هناك وليس في حي السيدة زينب، فهل سيقول لها إن الفتى كان في طريقه إلى القدس مثلاً؟

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي