توازنات الثقافة القاتلة في سورية
هل حصل التوافق إقليميّاً على شكل النظام السياسيّ في سورية؟ وهل كانت أولويّات بقاء هذا النظام هي "الاحتفاظ الدائم" بحقّ الردّ على قصف العدو الإسرائيليّ الأراضي السوريّة، والمطالبة، إعلامياً، باستعادة الأرضي المحتلة؟! ربّما بات مكشوفاً أنّ مصالح الدول - الغرب في المنطقة هي الأساس، لا استقلال الشّعوب وحرياتها وضمان حقوقها وسلامتها، فالتجارب الميدانيّة أظهرت لنا أنّ المجتمعات هي التي تفرض التغيير، ومهما كان من أمر العنف في تاريخها السياسيّ، فلا بدّ لها من انتزاع حقوق أفرادها، لكن المعادلة في وضع سورية لم تكن دقيقة.
تدفعنا الفرضيّة السّابقة إلى التأمل في طبيعة ذلك الصراع؛ إذ يعتمد، بالدرجة الأولى، على وجود قدرة عسكريّة، وحتى يتمّ التفاوض مع أيّ طرف لا بد أن يكون النظام الحاكم عسكريّاً تماماً، أي أن يكون رئيس الدولة هو قائد الجيش بالمطلق (!) وبناءً عليه، استولى الجيش السوريّ على الحُكم منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي، فانتقل البلد من تراجع سياسيّ إلى آخر، ومن سقوطٍ لقيم الإنسان إلى انسحاقٍ تام مع التبعيّة لمصالح الحاكم ونظامه.
وبما أنّ الأقليّات في سورية كانت تشكّل تنوّعاً وقلقاً في الوقت نفسه، وجد الغرب أنّ تغذيتها بشتّى السُّبل كلّاً على حِدة وسيلة للهيمنة على مستقبل البلد، وبناءً عليه تسلّمت أقليّة معينة الحكم، أصبحَ لها تجذّرٌ لعقودٍ في مفاصل الدولة، وخصوصاً أفرع الأمن والاستخبارات، القرار السياسيّ، القوّة الاقتصاديّة، والثروات فوق الأرض وتحتها. وحسب تلك البُنية، يمكن استنتاج أن المنظومة السياسيّة في سورية، إبّان تسلّم الجيش السلطة في مختلف الحقب، متفقٌ عليها مع الخارج لتبقى دائمة، لا شأن له بأحداث الداخل من انتهاكاتٍ وجرائم قد تُرتكب باسم الحفاظ على النظام. لاحقاً، أصبح شكل النظام مرتبطاً بعائلةٍ واحدةٍ تتفرّع منها القوّة الاقتصاديّة والعسكريّة والسياسيّة. وبالتالي، انتهت الحياة السياسيّة الحرّة في سورية منذ ما سمّيت "الحركة التصحيحيّة" مطلع سبعينيّات القرن الماضي على يد الأسد الأب. ومثل كلّ الأنظمة الشموليّة، عملت السلطة في البلاد ما تراه مناسباً لأمنها وبقائها، ولو على حساب تقطيع أوصال الجغرافية التاريخيّة كما نرى اليوم. وإذا كان يقين المنظومة السياسيّة الدائم هو البقاء مهما كان الثمن، فإنّ أيّ شكلٍ من التفكير في هذه البلاد يجب أن يكون من وحي ما يخدم المنظومة حصراً.
المؤسسات في سورية مجرّد هيئات تديرها السلطة بالحدّ المعقول ليكون الفساد فيها منظماً، نوعيّاً، ومرخّصاً له
الحديث اليوم عن قوّة المؤسسات في بلد مثل سورية يشبه، إلى حدٍّ كبير، شرح أهميّة اليابسة بالنسبة إلى الأسماك، فهذه المخلوقات لا يمكنها العيش بعيداً عن الماء، مهما كانت قوّة اليابسة وعظمة حضارتها على مرّ العصور، لن تنفع مخلوقات البحر كثيراً إلا إذا تحوّلت، مثلاً، إلى عدو وجوديّ. والمؤسسات في سورية مجرّد هيئات تديرها السلطة بالحدّ المعقول ليكون الفساد فيها منظماً، نوعيّاً، ومرخّصاً له، بمعنى أنّه لن يَعود للأخلاق الإنسانيّة أو قدرة التفكير السلميّة أيّة قيمة في مواجهة الألواح المحفورة باسم قيادة النظام، التي تشير إلى خريطة العمل اليوميّ والمستقبليّ للجميع. هنا أستخدم كلمة "الألواح" لما فيها من أثر مفتاحيّ وارتباط بالحضارة السوريّة والثقافة عبر التاريخ، ولعلّ وزارة الثقافة أبرز المعاقل، المُفترضة، لنشر الوعي ودعمه، إلّا أنّ هذا المعقل لم ينتج على مرّ العقود الماضية إلّا ما يريده النظام بحذافيره، بوصفهِ هيئة شكليّة لاحتواء من لا يستخدم الكلاشنكوف، بشكل واضح، ضد معارضي سياسات القمع وتكتيم أفواه الناس، إنما تظلّ أفعال القتل فيها مجازيّة أكثر، وإن قد تودي بحياة بعضهم إلى التهلكة حين يصبح عقله خطراً على النظام.
وأعتقد أنّ المنظومة السياسيّة هنا تقوم على قوّة القتل والخوف، وهي تعتمد على هيكلٍ موحدٍ من الأدوار، إنّه شكلٌ مُحدّدٌ وساكن، ولا يؤثر فيه تغيّر الأشخاص، بينما تتبع المنظومة الثقافيّة، بكلّ دعايتها وتمويلها، للسلطة، وليس فيها أيّ شكل واضح لهيكل مؤسسة أو اعتمادٍ على الكفاءات، إنّما هي تقوم على دور خدميّ لأفكار النظام.
قد يكون في المنظومة الثقافيّة أفراد فاعلون في الحقل الثقافيّ على مستوى الإنتاج المعرفيّ وتنمية العقول وفتح الطرقات أمام المجتمع على كلّ مستويات الفنّ والأدب، والتاريخ، والمعرفة، والوعي، والسياسة. هؤلاء الأفراد بالذات لا تريدهم المنظومة السياسيّة. ومهما فعلوا لخدمة دعايتها، ما إنّ تتلمّس رقابة السلطة أيّ تلميحاتٍ لثقافة حرّة ضدّ الطغيان المحليّ، ستسلّط الهيئات ذات المراجع الدينيّة للتخلّص منهم، أو تكفّ يدهم وتحاصرهم مباشرةً في حياتهم، وتقضي على نشاطهم.
وزارة الثقافة هي المكان الأكثر تأثيراً لمواجهة الجهل في المجتمع، ولا يمكن المرء النظر إليها بوصفها هيئة تعاونيّة ومهجعاً لخدمة دعاية النظام
لا تقتصر المنظومة الثقافيّة على وزارة الثقافة فقط برأيي، بل ترتبط بوزارتي التربية والتعليم، وكذلك بوزارة الأوقاف، حيث تشريع الدين السياسيّ للدولة. وعلى قدر التفاهمات بين تلك الوزارات والمنظومة السياسيّة، نستطيع قراءة الأثر المعرفيّ لدى هذا المجتمع.
بصورة مختصرة، وزارة الثقافة هي المكان الأكثر تأثيراً لمواجهة الجهل في المجتمع، ولا يمكن المرء النظر إليها بوصفها هيئة تعاونيّة ومهجعاً لخدمة دعاية النظام، قد تُمرَّر أفكارٍ أو مبادراتٍ أو أنشطةً مفاجأة لجهة سقف التناول والنقد، لما تحمله من فسحةٍ تنفسيّةٍ، أسوةً بأفعال الدراما التلفزيونية المحلية، حيث تمرّر تناول بعض الأمور الحياتيّة بخصوص كوارث الحياة وهمومها في سورية باستثناء الجيش والأمن والرئيس (!)، أي باستثناء الأمور الجوهريّة التي ما زالت سبباً رئيسيّاً في دمار هذا البلد.
لو نظرنا بشكلٍ عمليّ إلى الهيئة السوريّة للكتاب، التابعة لهذه الوزارة، سنجد كتباً ألفها أهالي قتلى النظام مع الصور والذكريات، وسيُكرَّسون أدباء وكتّاباً (...) أو كُتباً ألفها منظّرو "الثورة الإسلاميّة" في إيران وداعمو محورها المزعوم، ليكونوا ملهمي جيش النظام، فكراً وعقيدةً. ومع تقدّم سنوات النّزاع في سورية، لم يَعُد هناك أيُّة قيمةٍ لمثل مؤسساتٍ كهذه، لأنّها أساساً كانت واجهةً دعائيّةً لا تستطيع أن تنافس الحقيقة المكشوفة؛ أي القتل لبقاء النظام. وقد برزت هذه الحقيقة إلى الواجهة عبر حوامل اجتماعية لمفاهيم الأقليّة والأكثرية، أي إننا عدنا إلى البدايات بُعَيدَ الاستقلال إلا قليلاً.
إسرائيل لا تكفّ عن قصف الأراضي السوريّة أمام أعين الجميع، ومن دون أن تحرّك المنظومة السياسيّة شيئاً
دعونا ننظر إلى المناطق التي تخلّصت في سنوات الثورة السورية الأولى بعد عام 2011، من قبضة النظام وجيشه، لقد توجّهت فوراً إلى هيئات دينيّة لأنّها لم تكن تعلم شيئاً عن معنى المدنيّة وفصل السلطات، ربّما، هي أساساً نتاجُ المنظومة السّياسيّة العسكريّة، وبالتالي نَمَتْ الثقافة العسكريّة عبر الفصائليّة والجيوش الرديفة والمليشيات المُضادّة، ولم يكن للعقل أيّ تدبّر سلميّ في هذا، لأنّه مقيد بالخوف من تهديد وجوده بالقتل.
هل ثمّة فصيل ثوريّ قاتَلَ النظام، وكانت الأفكار الليبراليّة، على سبيل المثال، تديره؟ هل كان هناك أجسامٌ عسكريّة لديها أولويات في التغلغل السياسيّ والفكريّ في المجتمع، وضمان العمل بجديّة على التوازن بين الأقليّات والأكثريّات؟ لا أعتقد أن ذلك قد حصل، لأنّنا اليوم نشهد صراعاتٍ تحكمها الطائفيّة فقط، ولا مجال للحديث عن سورية دولةً بمعزل عن تلك التوازنات القاتلة.
لننظر إلى الشمال السوريّ الذي تستعد تركيا لاجتياح أجزاء جديدة منه بجيشها، بالتحالف مع فصائل مقاتلة محسوبة على الثورة السوريّة، لننظر إلى الأكراد الذين لديهم تحالفاتٍ وتفاهماتٍ مع الولايات المتحدة وروسيا والنظام وإيران، لننظر إلى روسيا التي اختبرت معظم سلاحها في سورية عبر دعم الأسد الابن، قبل أن تغزو أوكرانيا وتشجّع تركيا على التوغل مجدّداً في سورية. لننظر إلى إسرائيل التي لا تكفّ عن قصف الأراضي السوريّة أمام أعين الجميع، ومن دون أن تحرّك المنظومة السياسيّة شيئاً سوى إطلاق بعض الشّعارات الخاوية في إعلامها، ويستمر عدّاد التنازلات عن هذه الأرض لكلّ من يُسهم في بقاء ذلك الشكل من النظام السّياسيّ الحاكم في سورية اليوم.