تنوير عشية الثورة .. في مصر وسورية
قدّمت الباحثة إليزابيث سوزان كساب في كتابها "تنوير عشية الثورة: النقاشات المصرية السورية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2020)، النقاشات التي جرت في مصر وسورية بشأن التنوير خلال العقدين اللذين سبقا الثورة في البلدين عام 2011. لم تكن تلك النقاشات دراسات أكاديمية في مفهوم التنوير وتياراته في مصدره الأوروبي، بقدر ما كانت نقاشات ذات طابع تاريخي في قيم التنوير وضرورتها في البلدين. وكان للاختلاف الجزئي في الطبيعة المحلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية لكلا البلدين دور في تحديد مسار نقاشات التنوير، حيث هيمن الصراع مع الإسلاميين على نقاشات التنوير في مصر، في حين استهدفت النقاشات في سورية الدولة ذاتها كدولة استبدادية.
العلمانية والإسلامية في مصر
مع دخول الصراع في مصر بين الحكومة والإسلاميين المرحلة المسلحة، لجأت الحكومة إلى إطلاق حملة تنوير لمواجهة الفكر الإسلامي الجهادي، غير أن هذه الحملة قوبلت برفض من الإسلاميين الذي فضّلوا طرح تنوير إسلامي بديلاً عن التنوير الحكومي. وتناولت المؤلفة نموذجين من هذين التيارين: جابر عصفور من الخطاب العلماني ومحمد عمارة من الخطاب الإسلامي، الأول عبر كتابه "هوامش على دفتر التنوير"، والثاني "الإسلام بين التنوير والتزوير". ويشكل عصفور حالة مفارقة، فهو شديد النقد للدولة الاستبدادية، لكنه في المقابل ابن النظام المصري ومؤسساته، إذ تولى مناصب رفيعة. وفي مقاربته للتنوير وفشله في مصر، يحدد عصفور ثلاثة أسباب: استراتيجية النهضة التصالحية بين عملية التحديث الثقافي والسياسي وبين التقليد الكلاسيكي القديم، وقد أضحى ترسيخ التقاليد باعتبارها مرجعية لصحة أي تغيير العقبة الثانية في فشل التنوير المصري، أما السبب الثالث فمنشؤه الظروف التاريخية التي لم تشجع الأفكار التنويرية على النمو. ويضيف عصفور أن المزيج من الاستبداد السياسي والأصولية الدينية أزمنة جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك أدّى إلى أزمة حادّة في التنوير، فاقم من حدّتها نمو الأمية والإفقار وازدياد التزمت. والحل، من وجهة نظره، للخروج من أزمة التنوير المصري، يكمن في مقاومة العنف والقمع ورفض احتكار المعرفة، من دون أن يقدّم آليات لهذه المقاومة، خصوصاً أن أفكاره هذه لم تمنعه من تقديم خدماتٍ للدولة التي كانت تقوّض مبادئ الحرية.
يشكل جابر عصفور حالة مفارقة، فهو شديد النقد للدولة الاستبدادية، لكنه في المقابل ابن النظام المصري ومؤسساته
يهاجم محمد عمارة التنوير الذي ينتمي للثقافة الأوروبية المادية كرد فعل على هيمنة الكنيسة، وبالتالي، فإن خصوصية التنوير الأوروبية لا تنطبق في العالم الإسلامي، حيث الدين والثقافة في الإسلام وسطيان لم يسفرا عن ثنائيات مطلقة، كالإيمان والعقل. وبذلك، ينتهي عمارة إلى أن حملة التنوير الحكومية تهدف إلى تحقيق برنامج مناهض للإسلام. ويدافع عمارة عن أطروحات مفكري النهضة الإسلاميين، أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، حيث لم يكن هؤلاء مؤيدين للتنوير بصيغته الأوروبية العلمانية، بقدر ما كانوا يقدّمون تحديثاً للفكر الإسلامي من منطلقات العقل.
نقد الخطاب التنويري
تعرّض خطابا التنوير الحكومي والإسلامي لهجوم حاد، وقد اختارت الكاتبة ثلاثة نماذج لهذا الهجوم: منى أباظة، نصر حامد أبو زيد، شريف يونس. وقد استهجن ثلاثتهم ما تعرّض له التنوير من امتهان يتسم بالنفاق والسطحية، ورأوا أن كلا الخطابين مدجن، لأن أنصارهما كانوا محافظين مذعنين، لا هم لهم إزاء أفكار التنوير التحرّرية، فضلاً عن أن كلا الخطابين نشأ لمواجهة الخطر الإسلاموي من دون تحليل عميق للواقع الذي أسفر عن هذا الخطر.
عرّف كل طرف الدولة بمفهومه الخاص للهوية، وسعى كل طرفٍ إلى فرض رأيه، وهكذا حيد الشعب من هذا الصراع
بينت أباظة كيف باتت فكرة التنوير ساحة لمعركة سياسية وفكرية بين العلمانيين والإسلاميين. وفي هذا السياق، ترى أن خطاب التنوير الإسلامي يستنسخ القضايا والأفكار التي جاء بها التنوير الزائف، ويمنحها لمسة إسلامية. في المقابل، ترى أباظة أن التحالف بين المثقفين العلمانيين والدولة لم يمارس أياً من تعاليم التنوير. ومع نصر حامد أبو زيد وشريف يونس، انتقل النقد من السياق الاجتماعي السياسي لخطابات التنوير إلى محتواها، وفيما انصب اهتمام أبو زيد على تاريخ الفكر الديني الإسلامي، انصب اهتمام يونس على تاريخ الفكر الأيديولوجي المصري. وقد دعا أبو زيد إلى قراءة تاريخانية للقرآن تستند إلى العلوم الإنسانية في القراءة والتفسير في ضوء سياق نزوله، لا سيما السياق الثقافي واللغوي، الأمر الذي يؤدي إلى تفاعل القارئ مع المعاني التي يحملها النص المقدس.
وفي عام 2001، عالج أبو زيد قضية التنوير الحكومي الذي فقد من وجهة نظره الصدقية والعمق، ذلك أن التنويريين الحكوميين لم يطوّروا تحليلاً نقدياً جادّاً للوضع أو فهماً متيناً لجذور العنف، كما لم يقتربوا من إماطة اللثام عن العلاقة بين عنف الإسلاميين وممارسات النظام الوحشية. وبدلاً من هذا التنوير الأجوف، دعا أبو زيد إلى تثوير الفكر، عبر تحدّي المحرّمات والنفاذ إلى مناطق اللامفكر فيه، ولتحقيق العلمانية لا بد من إصلاح ديني جذري، وهو ما لم يحصل في العالم الإسلامي.
وفي سياق الهجوم على التنوير الحكومي، ذهب يونس إلى أن مشروع التنوير الحكومي لم يكن بهدف نقد الواقع، ولا بهدف تعزيز الديمقراطية، وما قيم الحرية والعقل والديمقراطية التي تبناها رجالات التنوير الحكومي إلا قيم خطابية أداتية لا يمكن تطبيقها في الدولة بحكم طبيعتها السلطوية والنخبوية.
من ناحية أخرى، سعى الإسلاميون الذين تحدّوهم بالتنوير الإسلامي إلى تبنّي القيم نفسها، ومن هنا عرّف كل طرف الدولة بمفهومه الخاص للهوية، وسعى كل طرفٍ إلى فرض رأيه، وهكذا حيد الشعب من هذا الصراع.
نقاشات التنوير في سورية
اختلف النقاش السوري بظروفه وأهدافه وتركيزه ومستواه عن النقاش المصري بشأن التنوير. لم يكن الإسلام السياسي في خطابات التنوير السوري الخصم الرئيس كما في مصر، وإنما كان استبداد الدولة السورية وفسادها ووحشيتها. وكان المجال العام الذي جرى فيه النقاش السوري يخضع لقيود كثيرة أكثر بكثير مما كان في مصر، إضافة إلى أن النظام السوري لم يكن معنياً بطرح خطاب تنويري على غرار الحكومة المصرية. وبسبب القمع الشديد للنظام، لجأ رجال التنوير إلى استخدام لغةٍ عامة، فتحدّثوا عن المجتمع العربي أو الدولة العربية، الأمر الذي منعهم من ملامسة القضايا داخل سورية ملامسة مباشرة.
تبدأ المؤلفة بمقالة لأحمد برقاوي بعنوان ما التنوير؟ باعتبارها مدخلاً ملائماً للحديث عن التنوير السوري. من وجهة نظر برقاوي، يجب فهم فكرة التنوير من خلال تقصّي الظلمة التي ظهر في طياتها هذا السؤال، فليس المطلوب بحث فكرة التنوير بالرجوع إلى التنوير الأوروبي ورائده إيمانويل كانط أو روسّو، وإنما الحفر في الظلمة التي يعانيها المجتمع العربي، والسوري بشكل خاص. ويكون التنوير عندما يتم كشف الواقع وتفسيره وطرح رؤية بديلة لا تكون فيها الدولة عائقاً في تحقيق طموحات الشعب، وهذا يتطلب التركيز على ثلاثة مفاهيم يراها مفصلية في التنوير السوري: الدولة، المجتمع المدني، الأصولية الإسلامية.
وقبيل انتقالها إلى برهان غليون، تمر المؤلفة سريعاً على بعض الأسماء، مثل ممدوح عدوان، الشاعر والروائي والمسرحي، الذي بلغ النقد الموجه إلى النظام معه مستوى أعلى، ففي كتابه "حيونة الإنسان" عالج ظاهرة التوحش والقمع واعتياد القمع. أما ياسين الحاج صالح فيستذكر وقائع اجتماع عام 1979 بين الجبهة الوطنية التقدمية واتحاد الكتاب، وما جرى فيه من تقديم وثيقة سرّية تتحدى الحقيقة الرسمية. وقد شكل هذا الاجتماع، بحسب الحاج صالح، نقطة ميلاد المثقف السوري الذي يعرّف بأنه شخص يحظى برأس مال رمزي يسخره في الشأن العام.
وفي تحليله ظروف الاجتماع، يعتقد الحاج صالح أن النظام رأى مواجهةً تلوح في الأفق مع الإسلاميين، فأراد أن يفوز بمؤازرة المثقفين العلمانيين. ويرى الحاج صالح أن ما منع نشوء معارضة حقيقية هو الالتزام الأيديولوجي، تقدّمياً كان أم شيوعياً أم قومياً أم إسلامياً، فقد حرم هذا الالتزام المثقفين من الاستقلال الفكري والسياسي. وعن هذه النقطة، شدّد ميشيل كيلو عام 2013 على أهمية الاستقلالية الفردية، كي يكون نشاط المثقف فاعلاً. وفي مقالة له حملت عنوان "مثقف التغيير"، تحدّث عن ظاهرتين تجلّتا في السنوات الأخيرة في سلوك المثقفين العرب: الأولى، ابتعادهم التدريجي من الانتماءات الحزبية، والتصاقهم بتجاربهم الشخصية، والثانية، انخراطهم على نحو أوسع في المجتمع المدني.
لم يكن الإسلام السياسي في خطابات التنوير السوري الخصم الرئيس كما في مصر
وعلى غرار الحاج صالح وكيلو، انتقد برهان غليون الأيديولوجيا، وكتب عن نقد الأيديولوجيا والعداء بين الدولة والمجتمع. وفي كتابه "بيان من أجل الديمقراطية" (1978) شدّد على أن الخلل الرئيس في المسألة القومية تمثل في تركيزها على الدولة، بدلاً من الشعب. وفقاً لغليون، ما حدث في التاريخ العربي الحديث هو تأسيس دول على يد نخب تابعة لرؤوس الأموال وخاضعة لمصالح الذين يوالون الغرب، وهكذا برزت دولة الطبقة التي لم تنسجم مصالحها مع مصالح أغلبية الشعب. وقد سعت النخبة، في سبيل رؤية توفق بين التقليد والحداثة وبين الفكر الديني والمناهج الحديثة، لكن تلك الرؤية فشلت، بحسب غليون، إذ لم يكن بالإمكان أن تنجح إلا إذا تعرّض أحد أطراف التوفيق للتحريف. بعبارة أخرى، بني جهد النهضة خطأ على النجاح الموعود نتيجة لهذه الاستراتيجية التصالحية. وفي كتابه "اغتيال العقل" (1985)، طالب برهان غليون المفكرين العرب بتحرير عقولهم من الأيديولوجيات التصالحية.
يختلف عبد الرزاق عيد مع توصيف غليون للنهضة، فهو لا يعتقد أن رواد النهضة الكبار كانوا ينادون بالعلمانية لتمكين المستبدّين، في وقت انتقد كثيرون منهم الاستبداد، وإنما حورب هؤلاء من النخبة، وليس من الشعب. ويستدرك عيد بأنه منذ النهضة وُوجه العلمانيون بسيف النخبة الحاكمة الأتوقراطي، كما ووجهوا بسيف المؤسسة الدينية. ولم يكن النزاع بينهما ثقافياً، وإنما على السلطة والشرعية الدينية. والقول إن النهضة، بما فيها الأفكار التنويرية والعلمانية، كانت أيديولوجياً ليست سوى دعوى خطيرة تعزز موقع هذين المعسكرين، أي النخبة الحاكمة والمؤسسة الدينية. وإذ يهاجم غليون النخبة ويربطها بالنهضة، فإنه يشوه واقع النهضة ويعزو فضلاً للنخبة لا تستحقه، وهنا يغدو دفاع غليون عن خصوصية الشعب الثقافية التقليدية اعتذاراً عن التخلف الحضاري. ويتفق عبد الرزاق عيد مع جورج طرابيشي الذي يرى أن نداء غليون يمكن تبريره، لو أن الناس استقلوا قارباً منحرفاً احتاج إلى إنقاذ، ولكن الوضع في الحالة العربية، بحسب طرابيشي، مثل قاربٍ لا يستطيع الشروع في الأبحار أصلاً، وهذه حجّة عيد الرئيسية.
يتفق صادق جلال العظم بشأن ظهور هجوم متنامٍ ضد النهضة منذ عام 1967، وبرأيه، أثبتت هزيمة 1967 أن الفرضية القائلة إن أفكار النهضة يمكن التسليم بها وتحسينها فرضية زائفة. وفي هذا السياق، ترى المؤلفة سوزان كساب أن العظم، شأن مثقفين آخرين، ساوى بين النهضة والتنوير.
كان التغير في سورية ضرورياً، لكنه كان بحاجةٍ إلى أن يحتضن الجميع ويعتنق التعدّدية
وفي عام 2005، أصدر طيب تيزيني "بيان في النهضة والتنوير العربي"، رأى فيه أن الإصلاح الديمقراطي هو الطريق الوحيد للنهوض من الحطام العربي، وأصرّ على الرابط العميق بين مشروع النهضة التنويرية العربية الجديدة وإشراك المجتمع المدني في إدارة الحياة السياسية. لم تكن النهضة والتنوير على جدول أعمال تيزيني فترة طويلة من حياته الفكرية حتى منتصف العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، إذ كان مبتدأ أمره قراءات ماركسية في التراث، كان المأمول منها أن تأتي بعناصر ثقافية، وفي النهاية سياسية، عربية تشعل الثورة. وفي عام 2008، فسّر تيزيني التغيير في نظرته من الثورة إلى النهضة والتنوير على النحو الآتي: في ضوء المستجدّات الأخيرة، بما في ذلك انهيار الاتحاد السوفييتي والنظام الدولي الجديد وغزو العراق، كانت الأفكار بحاجةٍ إلى إعادة نظر، والمواءمة بحيث تستجيب لهذه المستجدات. وما اقتضته الظروف الجديدة هو التنوير والنهضة، وليس الثورات التي تشعلها طبقات معينة مثل الطبقة العاملة.
كان التغير ضرورياً، لكنه كان بحاجةٍ إلى أن يحتضن الجميع ويعتنق التعدّدية، وبحاجة إلى إعادة الاعتبار للمشروعات السياسية والثقافية السابقة. قبل ذلك بخمسة أعوام، شنّ ميشيل كيلو، عام 2003، هجوماً مريراً على تيزيني بشأن فكر جديد، ورأى أن تيزيني تأخر في قراءة الواقع وفي تبنّيه توجهاً تنويرياً ونهضوياً، وأنه ما برح على تعاطفه القديم مع الأيديولوجيا البعثية، وأن رهانه على الإصلاح ظل قائماً فترة طويلة على الدولة، وليس على المجتمع المدني. وأخيراً، والكلام لكيلو، التقت نقائض تيزيني الفكرية بضعف خبرته السياسية، ما جعل دعواه التي تتسم بالصلف من أجل الاعتقاد الفلسفي مرفوضة. وفي عام 2001، أصدر طيب تيزيني نقداً لربيع دمشق تحت عنوان "من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني"، ويرتكز نقده على أن أنصار المجتمع المدني بالغوا في توقعاتهم بشأنه، في حين آمن هو بأن نقطة البدء في الإصلاح هي إصلاح الدولة.
وعلى الرغم من ذلك، وقع تيزيني على الإعلانين الكبيرين اللذين أصدرتهما المعارضة: إعلان دمشق عام 2005 وإعلان بيروت ـ دمشق عام 2006.
اللحظة السيزيفية
في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، دشّن الكاتب المسرحي سعد الله ونوس والناقد الأدبي فيصل دراج مجلة "قضايا وشهادات"، قُصد منها إلقاء الضوء على حالة العتمة التي تعيشها البلاد. وتضمنت الموضوعات الرئيسية للمجلة العقلانية والديمقراطية والحداثة والتحديث والنهضة والثقافة القومية والتبعية والتراث والتاريخ، ومثّل البيان التحريري الذي ظهر على الصفحة الأولى من كل مجلد برنامج المجلة.
تنتسب مجلة "قضايا وشهادات" إلى مرحلةٍ تلي مرحلة اليأس في حياة سعد الله ونوس الفكرية، وهي جزءٌ من نشاطه نحو إعادة بناء مشروع التنوير العربي
تنتسب المجلة إلى مرحلةٍ تلي مرحلة اليأس في حياة ونوس الفكرية، وهي جزءٌ من نشاطه نحو إعادة بناء مشروع التنوير العربي. وركزت المجلدات الأربعة الأولى من المجلة على رواد النهضة، فكان المجلد الأول خاصاً بطه حسين الذي أنتج مشروعاً تنويراً جذرياً في تاريخ العرب الفكري الحديث، وفي المجلد الثاني، يناقش ونوس اثنين من رواد النهضة، رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، بسبب المسائل التي طرحاها. وهنا، لا يرى ونوس صحة ربط فشل التحديث والتنوير بتفسيرات ثقافية وفكرية، وإنما يجب وضعه في سياقه السياسي. وقد خصص المجلد الثالث لحوار بين ونوس وأنطون مقدسي، فقد اتفقا على أن فكرة الحداثة التي كانت قائمة في الستينيات، تاهت في سديم النزعة الاستهلاكية وضغوط القمع وموجة العنف السلفي والانهيار العربي العام. وفي المجلد الرابع، يواصل ونوس نقده المنهج الثقافي للمعضلة العربية مع الحداثة.
مثله مثل ونوس، وجد فيصل درّاج أن قضايا الأصالة والهوية مسائل زائفة تغذّيها السلطات المهيمنة والوعي الزائف الذي أوجدته، ورأى أن المدافعين عن الأصالة هم أكثر خدّام التبعية نشاطاً، ومثل ونوس، نظر درّاج أيضاً إلى النهضة في سياقها الاجتماعي التاريخي. ورأى درّاج أن الإخفاق في تقدير محتوى التنوير وقيمته إشارة إلى العصر الحاضر المضطرب. وإذ ينسب برهان غليون البؤس إلى حداثة النهضة التي تبنتها الأنظمة، تفوته حقيقة أن الحداثة لم تحظ بالتبني الكامل، كما أن أولوية الفكر العربي الحديث ليست الاستيلاء على السلطة، بل الصعود الأخلاقي للدولة والمجتمع.
ربيع دمشق البروموثيوي
تمتد فترة ربيع دمشق من خطاب بشار الأسد عشية تنصيبه في 17 يوليو/ تموز 2000 إلى اعتقال الناشطين البارزين في سبتمبر/ أيلول 2001. خلال هذه الفترة، تسارعت الأحداث: أفرج الأسد عن 600 معتقل سياسي، وسمح بنشر الصحف المستقلة، وصادقت الحكومة على قانون تأسيس البنوك الخاصة، وتعليق القانون العرفي.
ما التنويران، المصري والسوري، إلا مساعٍ فكرية للتوصل إلى حل بشأن ظلمة إفك الدولة
قامت المعارضة بتحرّكات جسورة بعد الانتخابات الرئاسية، ففي منتصف أغسطس/ آب 2000، أرسل أنطون مقدسي رسالة مفتوحة إلى بشار الأسد، وأصدر رياض الترك مقالات نقدية في صحف خارج سورية. وفي سبتمبر/ أيلول، أعلن سيف افتتاح منتدى الحوار الوطني. وفي الشهر نفسه، أصدر تجمع أصدقاء المجتمع المدني بيان الـ 99، ثم تلاه بيان الـ 1000، وأعلن عن افتتاح منتدى الأتاسي. وفي مارس/ آذار 2001، أصدرت جماعة الإخوان المسلمين ميثاق شرف وطني أولياً من لندن، ساعية إلى التعاون السلمي مع المعارضة والنظام. ولكن في فبراير/ شباط 2001، بدأ النظام حملة لقمع نشاط المعارضة، بفرض شروط مانعة على تنظيم الأحاديث في المنتديات.
.. ما التنويران، المصري والسوري، إلا مساعٍ فكرية للتوصل إلى حل بشأن ظلمة إفك الدولة، وكان استنكار خطاب الدولة المهين بشأن التنوير في مصر، وفضح الامتهان للسلطة في مصر وسورية، أبرز المساعي التي قامت بها الكتابة النقدية التنويرية. أما بالنسبة إلى التنويريين النقديين، فالمأزق في قلبه سياسي، ولا يمكن علاجه إلا باستعادة الحق في المشاركة السياسية.