تمادي قيس سعيّد
إلى أين يريد أن يصل الرئيس التونسي قيس سعيّد؟ لا يمكن التكهن بذلك لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في القضاء الذي سطّر قبل يومين فضيحة جديدة بإصدار حكم ابتدائي غيابي بحق الرئيس التونسي الأسبق، منصف المرزوقي، يقضي بسجنه أربع سنوات، بتهمةٍ مهينةٍ تسمّى الاعتداء على أمن الدولة الخارجي. والفضيحة لا تقف فقط عند التهمة نفسها، والتي تتشابه مع تهم سائدة في أكثر من بلد عربي، مثل "وهن نفسية الأمة" في سورية، بل في قائمة المخالفات التي اتسمت بها المحاكمة كرمى لرغبات رئيسٍ استطاع أن يسخّر القضاء على هذا النحو.
ولعل رد المرزوقي على الحكم في تدوينته يختصر الكثير مما مرّ عليه وعلى تونس، بعدما قال "حوكمت أكثر من مرة في عهد بورقيبة... وحوكمت أكثر من مرة في عهد بن علي .. والآن يصدر ضدّي حكم في عهد قيس سعيّد... رحل بورقيبة وبن علي وانتصرت القضايا التي حوكمت من أجلها، وبنفس الكيفية المهينة سيرحل هذا الدكتاتور المتربّص، وستنتصر القضايا التي أحاكم من أجلها".
حجز سعيّد لنفسه مبكراً مقعداً في قائمة رؤساء الدول العربية الشعبويين، ثم انتقل سريعاً إلى ضمان تفرّده بالحكم وتطويع كل السلطات في يده، حتى أصبح أي انتقاد له يمكن أن يؤدّي بصاحبه إلى المحاكمة المدنية أو حتى العسكرية ثم السجن.
لم يُخف سعيّد يوماً نيته الانقلاب على النظام السياسي القائم في تونس منذ حتى ما قبل انتخابه، وإن لم يتوقف كثر عند خطورة مضامين تصريحاته مرشحا رئاسيا. وعندما تسلم الحكم، لم يتأخّر كثيراً في تطبيق نواياه. ما بدأه في 25 يوليو/ تموز الماضي، بتجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة تحت مسمّى "تدابير استثنائية"، سرعان ما تطور إلى المرسوم 117 الذي علّق بموجبه أبرز بنود الدستور، مانحاً نفسه صلاحياتٍ تشريعيةً وتنفيذيةً مطلقة. ولم يتردّد في وهب نفسه مزيداً من التفرّد، بقراراته التي أعلنها قبل نحو عشرة أيام، عندما أكد استمرار تجميد عمل البرلمان حتى تنظيم انتخابات جديدة في ديسمبر/ كانون الأول 2022، من دون أن يجرؤ على حل المؤسّسة التشريعية لرغبته في عدم تنظيم انتخابات مبكّرة. والأسوأ أنه قرّر استباق هذه الانتخابات بما سمّاها استشارات شعبية عبر وسائل الاتصال الجديدة (أي افتراضياً)، يليها تنظيم استفتاءٍ على طبيعة النظام السياسي الذي يجب اعتماده في البلاد. كما أرفقها بترتيباتٍ لتنفيذ ما يسمّى مشروع الصلح الجزائي/ الجبائي مع رجال أعمالٍ متهمين بالفساد، محاولاً استنساخ تجارب عربيةٍ مشابهة، وإن كانت قد أُثبت أنها بلا جدوى كبيرة اقتصادياً، وقادت إلى تحالفاتٍ بين رموز الفساد والسلطة السياسية.
وبعيداً عن مدى قانونية إجراءاتٍ كثيرة أعلن عنها سعيّد وشرعيتها، فهي في الأساس تبدو غامضةً وغير مضمونة التطبيق، لكن سقوطها يبقى مفتوحاً على جميع الاحتمالات، ورهناً بما ستحمله المرحلة المقبلة من تطوّرات.
اتخذ سعيّد كل هذه القرارات من دون "استشارة" أحد. بالنسبة إليه، لا وجود لقوى سياسية وحزبية، بل مجرّد متآمرين. وكل من يوجد في الشارع ولا ينادي باسمه أو تأييداً لقراراته لا يمكن الاستماع إليه أو وضعه في الحسبان. حتى أن الاحتجاج في عهده، وتحديداً الاعتصام، من المحرّمات التي لا يمكن السماح بها، حتى لو تطلب الأمر توجيه القوى الأمنية إلى قمع المتظاهرين وتفريقهم بالقوة.
يستغل قيس سعيّد تشتت القوى السياسية المناوئة لإجراءاته، وعجزها حتى بعد خمسة أشهر من انقلابه على الوحدة في جبهة سياسية من أجل الضغط عليه. ويدرك جيداً أن تحقيق هذه الوحدة سيزداد صعوبةً كلما مضى الوقت، وتقدّمت خريطة الطريق التي وضع مساراً لها ينتهي في أواخر 2022، لكنه يعي، في المقابل، أن ذلك لن يعني تراجعاً بالضرورة في الاحتجاجات الشعبية التي تستطيع أن تقلب المعادلة في أي لحظة.